فيلم “الخادمة” الكوري.. “مبتذل” في زمانه سابق لعصره اليوم

منصورة الجمري

يعتبر فيلم “الخادمة”  وهو فيلم كوري جنوبي، أحد أبرز كلاسيكيات سينما كوريا الجنوبية، وهو فيلم شكّل وقت عرضه، مدرسة سينمائية لصناع سينما كوريا الجنوبية وربما للسينمائيين في كل مكان في ذلك الوقت، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.

طالته انتقادات كثيرة، وأثار جدلا كبير عندما عرض عام 1960، فقد وصف بالفيلم “المبتذل”، و “البشع”، و”المبالغ فيه”، وذلك نظرا للجانب الأخلاقي الذي تناوله، لكن في المقابل، كان هناك اجماع نقدي لا يزال قائما حتى اليوم، على اعتباره أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الكورية، بل إن مؤسسة أرشيف الأفلام الكورية اعتبرته في عام 2014 أفضل فيلم كوري على الإطلاق.

يرى النقاد أن هذا الفيلم غير وجه السينما الكورية، يصفونه بأنه سابق لعصره، كما بلغ الاحتفاء العالمي به حداً جعل مؤسسة مارتن سكورسيزي للسينما العالمية تختاره ضمن مجموعة من أهم وأبرز كلاسيكيات السينما العالمية التي شكلت علامات فارقة في سينما بلادها، لتتكفل المؤسسة بترميمه واعادة عرضه على بعض منصات عروض الأفلام مثل منصة موبي التي شاهدت الفيلم عبرها.

يمكن الوقوف على أسباب هذا الاحتفاء الكبير بالفيلم منذ أول مشاهدة له، فهو بداية يناقش قضية هامة ومحورية في المجتمع الكوري الجنوبي في ذلك الوقت تتعلق بظهور الطبقة الوسطى العليا في تلك الفترة التي شهدت طفرة في الاقتصاد الكوري الجنوبي.

ويلقي مخرج الفيلم كيم كي يونغ وهو كاتبه أيضا، نظرة على واقع هذه الطبقة وعلى التحديات التي يواجهها أفراد المجتمع الكوري الجنوبي في محاولتهم الانتقال من الطبقات الأدنى إلى هذه الطبقة.

تشمل هذه التحديات أو المعضلات الأخلاقية التي يصورها الفيلم قضايا مثل الخيانة والتجرد من بعض القيم والأخلاقيات، وهي موضوعات كانت في ذلك الوقت محرمات (تابوهات) لا يتم الاقتراب منها عادة، حتى في صناعة سينمائية بارزة مثل هوليوود، لكن مخرج هذا الفيلم وهو كاتبه كما أسلفنا، ارتأى تقديم درس أخلاقي بتعرضه لهذه المعضلات التي كانت تواجه المنتمين لهذه الطبقة أو الطامحين إلى الارتقاء إليها.

هكذا جاء الفيلم ليناقش ثيمات مثل تفتت الأسرة، والانحرافات الأخلاقية، وتغيير موازين القوى داخل الأسرة الواحدة وداخل المجتمع، ولينتقد سلوكيات مثل الطموح الأعمى والجشع اللذان قد يستوجبان التضحية بالقيم العائلية الكورية مثل الحب والإخلاص والتفاني في خدمة الأسرة، عدا عن نقله لحالة الضياع والقلق والتشتت التي يمر بها الكوريون الجنوبيون ممن عاشوا حالة مشابهة لحال العائلة بطلة الفيلم. عن ذلك صرح المخرج في أحد لقاءاته “أردت تصوير التغييرات في المجتمع الكوري وأزمة الأسرة البرجوازية”.

ومن بين الأسباب التي جعلت هذا الفيلم واحدا من أهم الأفلام حتى يومنا هذا، ما جاء على لسان المخرج الكوري البارز بونغ جون هو، الذي وصف الفيلم بأنه تمرين على تقديم “نوع” Genre مهجنا، مضيفا بأنه أحد الأسباب العديدة التي جعلت هذا الفيلم سابقا لعصره.

بالفعل يقدم الفيلم جونرا متنوعة، فهو أولا فيلم اثارة Thriller، وهو أيضا فيلم جريمة، وربما أمكن اعتباره فيلم رعب كوري يشبه ذلك النوع من أفلام الرعب الكورية التي راجت في تلك الفترة، وهو اضافة إلى ذلك، ميلودراما عائلية اجتماعية تعبر عن المجتمع الكوري الجنوبي في فترة الستينيات.

إلى جانب ذلك، فقد وجد النقاد الأمريكيون أسلوب الجريمة والاثارة (الثريلر) والأسلوب الانتقامي الذي اتبعته الخادمة في الفيلم يشبه ذلك المتبع في أفلام المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك، لكنهم في الوقت ذاته لم يتهموا مخرج الفيلم أبدا بتقليد هيتشكوك.

كذلك فإن تركيب الشخصيات يعد واحدا من عناصر تميز الفيلم. الفيلم قدم شخصيات شديدة التعقيد لكنها ليست بغيضة أو مكروهة من قبل المتفرج، حتى الخادمة التي تمثل الشر المطلق تكسب تعاطف المتفرج في بعض المشاهد.

ن جهة أخرى فإن الشخصيات التي تمثل الجانب الخيّر، تثير غضب المشاهد في بعض مواقفها، كالزوجة التي يتم خيانتها وهي زوجة محبة لأسرتها متسامحة مع أخطاء زوجها، لكنها في الوقت ذاته تبدو مادية جدا، مهووسة على الدوام بتجميع المال وبالحياة الأفضل حتى لو جاء ذلك على حساب عائلتها. بل إنها وحين يعترف لها زوجها بخيانتها مع الخادمة، لا تبدو متأثرة بالقدر الذي تعلن فيه رغبتها في الحفاظ على صورة الأسرة المتوازنة، مهما كلف الأمر وإن عنى ذلك دفعها الخادمة لاجهاض جنينها، أو موافقتها على أن يقضي زوجها الوقت مع الخادمة.  

إلى ذلك، يمتلئ الفيلم بالكثير من الاستعارات والرموز، أبرزها الاستخدام الرمزي للسلالم بشكل كبير، ذلك الموقع من منزل العائلة الذي تحدث عليه كل الأحداث الهامة والمحورية. ذلك المكان الذي يشهد سقوط شخصيات وصعود أخرى، عليه تموت الخادمة حين تسقط من أعلى درجاته حتى الأسفل، وعليه يتم تشجيع الابنة المشلولة لتتحرر من عكازيها، بل إنها تقف بالفعل في أحد المشاهد لتنتزع من شقيقها أمرا ما. على السلالم يهدد الزوج وهو مدرس موسيقى، إحدى طالباته بالقول “أنظري إلى الأسفل، يمكنني قتلك بسهولة” في اشارة إلى أنه يمكن له أن ينقلها من طبقة لأخرى إن أحدث لها فضيحة أخلاقية وذلك على إثر إعترافها له بحبها.

السلالم بشكل عام، في ارتقائها صعودا أو نزولا، تشير بشكل عام إلى معاناة أفراد المجتمع وكفاحهم من أجل الإنتقال إلى طبقة إجتماعية أعلى وكذلك إلى التضحيات الكبيرة التي يجب عليهم أن يتخذوها من أجل الحفاظ على موقعهم في الطبقة الجديدة.

وإلى جانب هذا التوظيف الفعال لسلم المنزل، يوظف المخرج المكان وهو منزل الأسرة الذي تدور فيه معظم الأحداث خير توظيف. بل يمكن القول إن المكان (منزل الأسرة) يلعب الدور الأكثر أهمية في الفيلم، فكل شيء مقسّم فيه بشكل مدروس.  هنالك طابق أرضي سكنته الأسرة أولا قبل أن تتمكن من اتمام الطابق الثاني ونقل بعض غرفها إليه. الطوابق إشارة واضحة إلى الطبقات الاجتماعية، الطبقة السابقة التي انتمت إليها الأسرة ثم الطبقة الأعلى التي ظلت ترتفع إليها شيئا فشيئا طوال مدة الفيلم البالغة 108 دقيقة. تظل الأم في الطابق الأول (الأدنى) في غرفة نومها التي تحتل مساحة بارزة منها ماكينة خياطة، تعد هي الأداة أو الوسيلة التي ستنقل الأسرة من طبقة إلى أخرى. تقل غرفة النوم أسفل السلالم مباشرة.

هنالك أيضا المقارنة بين داخل المنزل وكل ما يدور فيه، وخارجه الذي تصوره الكاميرا من خلف الزجاج الذي يملئ غرف الطابق الثاني، وهنا تبرز نقطة تميز أخرى تتمثل في كاميرا المخرج التي تتنقل بسلاسة بين داخل المنزل وخارجه، عدا عن تنقلها الأنيق بين غرف المنزل المختلفة. عدا عن دلالات الداخل الذي يمثل الواقع الذي تعيشه الأسرة بكل تفاصيله ومعاناته، في مقابل الخارج الذي يرمز إلى الحلم والطموح والواجهة الجميلة التي تبدو أجمل بكثير من حقيقة الداخل. 

أخيرا فإن حقيقة كون فيلم الإثارة النفسية هذا (الثريلر) هو بمثابة تحليل اجتماعي، ونظرة تأملية فاحصة للمجتمع الكوري الجنوبي في نهاية فترة الخمسينيات من القرن العشرين، يجعله، بلا شك، واحدا من أهم الأفلام في وقته، وفيلما يستحق التوقف أمامه لا لجودته وسبقه الفنيين وحسب، بل لطرحه الاجتماعي المثير للجدل، يومها، وربما الآن أيضًا.

“دمشق مع حبي”

” ثاني أمسيات “سينيسيتا مشق

أقيمت ثاني أمسيات “سينيسيتا مشق” مساء يوم الأربعاء الموافق 13 سبتمبر 2017، وعرض خلالها الفيلم السوري “دمشق معحبي”، اخراج وتأليف محمد عبد العزيز، وهو تجربته الروائية الثانية بعد فيلم “نصف ميلغرام نيكوتين” الذي كتبه وأخرجه، وقدمه عام 2007، وقد حصد جوائز عديدة. فيلم “دمشق مع حبي” يقدم آخر ظهور للفنان خالد تاجا الذي توفي  عام 2011، وقد قدم عرضه العالمي الأول في مهرجان دبي السينمائي في دورته السابعة عام 2011، فاز بجائزة مهرجان الاسكندرية السينمائي لدول حوض البحر الابيض المتوسط، وأحرز الجائزة الثانية في مسابقة الفيلم الروائي الطويل في ختام فعاليات لقاء نابل الدولية للسينما العربية الذي أقيم في مدينة  نابل التونسي

جاء تقديمي للفيلم كما يلي:

“يهودية؟؟ بس سورية!!” مست هذه العبارة قلبي، كما لم يسمه أي حدث أو تفصيل آخر في الفيلم. ربما لو شاهدت الفيلم عام 2010، عام إنتاجه، وحين عرض للمرة الأولى في مهرجان دبي السينمائي لكنت تفاعلت مع قصص وتفاصيل آخرى،  لكن اليوم والفيلم يطل على واقع سوري مختلف، واقع دمشقي كما هو إسم الفيلم، تبدو العبارة أعلاه هي ما يمس للقلب فعلا.  

سنعود للعبارة مرة أخرى لكن بعد عرض الفيلم. مشاهدة ممتعة

وفي فترة المناقشة والتحليل التي أعقبت الفيلم، جاء النقاش والمداخلات كما يتبع:

مقدمة البرنامج: هل تتخيلون أن هذا الفيلم أنتج عام 2010، وأن مخرجه حين سئل في ذلك الوقت عن رسالة فيلمه ذاك الذي تحدث فيه عن بعض الأقليات، قال يومها أردت أن أنقل رسالة أن سوريا هي بلد التنوع الثقافي والديني وهي بلد الأقليات المحترمة، والطوائف والعرقيات المختلفة التي تستطيع أن تعيش في تناغم وانسجام مع بعضها . المحزن أننا نشاهد الفيلم اليوم ونتساءل ما الذي يمكن أن يقوله مخرج الفيلم محمد عبدالعزيز عن سوريا، التي لم يعد لأقلياتها وجود. المحزن في الأمر أنه في عام 2010 قال أنه يريد أن يعرف بطائفة الأيزيدين واليوم نعرف هذه الطائفة ولكن ليس عن طريق فيلمه بل بشكل محزن جدا وبشع.

الفيلم اختار شخصية يهودية لتكون بطلته ولليهود حساسية خاصة فهم الإسرائيليون بالنسبة إلينا وهذا غير صحيح تماماً، نعود الآن إلى العبارة التي أحببتها كثيرا ووجدتها تلخص الفيلم “يهودية؟؟ بس سورية!!” هذا هو ما أراد المخرج أن ينقله ويركز عليه، فكرة الإنتماء الوطني بدلا من الإنتماء الديني، نحتاج لهذا النوع من الإنتماء بشكل كبير اليوم، فاليوم ما عاد الحديث عن سوريا أو غير سوريا على أنها البلد الواحد، كل البلدان العربية لم تعد كذلك، لم يعد مهما فيها سوى الإنتماء الديني ثم المذهبي وربما العرقي. عزز المخرج الفكرة بأمر جميل جدا وهو أنه جعل حبيب الفتاة المسيحي يشارك في حرب لبنان وهي حرب طوائف، لكي ينقل فكرة أنه إلى أي مدى كان المجتمع متناغم ومنسجم، ا لنزعة الإنسانية هي ما تحكم علاقات الأفراد.

الدكتور عقيل الموسوي

الدكتور عقيل الموسوي: الفيلم قوى ورسائلة قوية جداً، سأنتقده لأني قوي وسأتوقف عند الموسيقى، المنتجين لم يوفقوا في بعض المشاهد الموسيقية، مثل في مشهد الدير كان المشهد صوفي وفيه تفكير مع إيحاء بمرور الأديان في مخيلتها لكن الموسيقى لم تكن مناسبة لمحتوى المشهد، كانت بغيتار واحد وتشبه موسيقى الوايلد ويست الأمريكية ولم تكن موفقة تماماً، وتصورت أن المشهد سيقدم نهاية الفيلم،   فالفيلم يبدو كرحلة لإكتشاف الذات فالفتاة تبحث عن حبيبها ولكنها اكتشفت سوريا بأكملها بكل التلون الموجودفي لبسهم ولهجاتهم وهي مثل قصص الخيميائي الذي يبحث عن الكنز والذي يكتشف لاحقاً أن الكنز موجود في مكان البداية، وأن اكتشاف الذات هو أهم درس صوفي. لكن الفتاة هنا تكتشف سوريا بكل جمالها ومشاكلها ولكن الموسيقى لم تساعد في ذلك. الأغنية الأخيرة التي تم تركيبها على المشاهد الأخيرة أساءت للفيلم إذ لم يكن هناك داع لأن تدخل كلمات كان يكفي الموسيقى، دخول الكلمات بدت كراوي في رواية يفرض نفسه كطرف ثالث على المتحاورين. كان المشهد يحكي الوحدة فلا داعي للكلمات. الفيلم قوي جدا ومؤثر، التصوير رائع وكان يمكن أن تكون النهاية أجمل وأن يكون اسم الفيلم سوريا مع حبي بدلا من دمشق حبي.

مقدمة البرنامج:  لم يكن للفيلم حضور كبير ربما بسبب أزمة سوريا التي اندلعت بعد شهور قليلة فقط من عرضه الأول، كان يتغني بسوريا في ديسمبر 2010 وفي فبراير 2011 اندلعت الثورة السورية.  فيلم طريق يحمل طابع المغامرة ويحوي مغامرة (رحلة) تدور في حارات دمشق وريفها تقوم بها فتاة يهودية بحثاً عن حبيبها المسيحي.

من خلال عملية البحث يسعى المخرج إلى اكتشاف المدينة، يعرفنا ببعض الأقليات في سوريا من اليهود إلى المسيح، وبحسب ما قاله مخرج الفيلم عام 2010 اليزيديين والعرقيات المختلفة العراقي والفلسطيني والسوري من دمشق والسوري من الريف. يصور الفيلم العلاقة الإنسانية بين هذه الأقليات مع المجتمع ويكشف تعايشهم. المدينة هذه المرة رجل، هو الحبيب المسيحي الذي تبحث عنه الفتاة، فهي تبحث عنه وفي نفس الوقت تكتشف سوريا.

الدكتور كامل

الدكتور كامل: الفيلم أعاد لي ذكريات جميلة، أولها ذكرى الممثلين الذين منحونا أوقات جميلة في السابق مثل ياسين بقوش رحمه الله، والذكرى الثانية هي التمثيل السوري الرائع الذي ذكرنا بمسرحيات غربة وشقائق النعمان وضيعة تشرين، وهذا الفيلم من المستوى الراقي سورياً، والأمر الآخر  هو أنه قد يعتقد البعض أن هذه أحداث فيلم وليست واقعاً، هناك مقولة لسياسي كبير يقول أن الفنان والسياسي كلاهما يصنع النصر بصيغة مختلفة. الفن الراقي يصنع رسائل للمجتمع مثل هذا الفيلم الذي قدم الحب والسلام والوطنية وقيم كثيرة. في كل الدول العربية هناك فيلم أو مسرحية أو انشودة تنبه المجتمع على كارثة ستحدث في البلد، وهذا الفيلم اعطي رسالة للشعب أن الوطنية لا تعني الدين أو الأثنية الموجودة في كل بلد. أتأسف على أن هذه الرسائل السامية التي يبثها الفيلم تعجز دور العبادة والكنائس أن توصلها وتجمع فسيفساء المجتمع في قاعة. ما يجمعنا هو السينما والمسرح وجميع الفنون، في كل دولة لا نستطيع أن نجتمع بهذا التلون الديني والطائفي إلا من خلال السينما والمسرح والفن الراقي الذي يعد سلاح قوي لصنع الثقافة والوعي. أتمنى أن يكون لدينا فيلم بحريني راق بهذا المستوى لكي تزول هذه الغمة عن هذه الأمة.

أحمد الأحمد

أحمد الأحمد: عايشت هذه الأحداث، تصوروا إنني كنت بالفعل أعيش في سوريا خلال الفترة الزمنية التي تحدث عنها الفيلم، درست في حلب، وعشت في حارة مسيحين وعشت في حارة يهود، سوريا هي بالفعل كما يحكي الفيلم فسيفساء جميلة راقية. الفيلم أعادني ل>كريات كثيرة من ضمنها الفن الراقي ال>ي نفتقده . مثل ه>ه الجلسات التي كنا ننظمها في فرع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في دمشق أو في حلب لمناقشة الأفلام. كانت دمشق واحة للحب وللفن وللعاطفة وللوطنية ولذلك احتضنت منحى سياسي، فسوريا هي الدولة الوحيدة التي احتضنت الجميع دون تفرقة أو سؤال. بمجرد كونك عربي أو إنسان تستطيع أن تدخل سوريا التي احتضنت الأرمن والأكراد وكل المذاهب والجنسيات والأثنيات، احتضنتهم بكل حب.

اليهود كانوا جزء لا يتجزأ من النسيج السوري، هناك بعض الإشارات في الفيلم فهمتها جيدا وكنت أعرف لأي عرق يشير الفيلم. ويمكنني القول أن موظفة الجواز من الأرمن، أما الشاب والفتاة الل>ان يهربان فهما من العلويين. الأزقة والمقاهي والحانات وكل شيء في حلب وفي الشام وحتى طريقة الحب حتى الأشرطة القديمة وكثير من الأمور في الفيلم تتميز بها سوريا. الفيلم بشكل عام فيلم رائع، وأريد أن أقول أن جميع الأفلام السورية هي بهذه الجودة لكننا لا نشاهدها هنا وحققت جوائز عالمية. الممثل السوري يبذل جهد ولكنه للأسف غير محظوظ لكن أداءه راقي والموسيقى التصويرية والتصوير كلها أمور “متعوب عليها”.

المقدمة: أتفق معك في روعة التمثيل وك>لك في تميز الممثلين السوريين في هذا الفيلم وفي سواه، ويتميز الممثل السوري بقدرته على الإنتقال بين أنواع الفنون فمن الدراما التلفزيونية إلى المسرح إلى السينما، ونجده يبدع في كل لون ويعطيه ما يستحقه. عودة إلى الفيلم وهو فيلم طريق كما ذكرنا  وهو متأثر إلى حد كبير بالسينما الأوربية كما في الاهتمام بجماليات المواقع المشاهد الواسعة التي تصور جمال الريف السوري، ذكرني كثيرا بفيلم مذكرات راكب الدراجة الهوائية في تصويره لبعض المشاهد، وليس عيبا أن يقتبس الفيلم بعض الأفكار.أيضا بطء ايقاع الفيلم واهتمامه بتفاصيل المكان وحياة الناس يشبه ما تفعله السينما الإيطالية التي تجعلك تقع في حب الأمكنة. الموسيقى التصويرية اعترض عليها الدكتور عقيل ووجد انها دمجت بشكل حرفي، لكن ربما يعود ه>ا إلى أن المخرج أراد أن يقوم أن سوريا هي بلد التعدد الثقافي فجاءت ه>ه الخلطة الموسيقية التي لم تجدها موفقة.

المخرج هاشم آل شرف: أريد أن أتحدث عن رؤية المخرج، وهو أيضا كاتب الحوار ، في العادة حين يكتب المخرجين أفلامهم يصبح الفيلم كأنه إبن له، أجد أن المخرج طرح مشاعره عبر الفيلم أكثر من اهتمامه بتقديم سينما ممتعة، بل اهتم بتقديم احساسه. أما فيما يتعلق بالسينما الأوربية والإيطالية أتفق معك في الأمر فإيطاليا من أوائل الدول التي اهتمت بالسينما ربما عام 1908، لكن الموجه الجديدة في ه>ه السينما ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية كانت فكرتها الترويج لإيطاليا وقد تأثرت في >لك بفرنسا التي كانت تحمل ه>ا التوجه في السينما، والتي تتمثل في ابراز البلد عن طريق مشاهد الأفلام. وهنا نشاهد لقطات طويلة وهي متعبة للمشاهد وليست سهلة، والمخرج ركز عليها هنا كثيراً وفي بعض الأحيان لم يكن فيها أي ممثلين، لأن المخرج أراد أن يبرز البلد نفسها بأزقتها وأماكنها. هناك رؤية اخراجية جميلة في الفيلم وشخصياً أجد أنه يقدم رؤيته الخاصة أكثر من كونه يقدم فيلم سينمائي. هي رؤية جميلة وفيلم جميل وفكرة معينة يطرحها من خلال موضوع التراب حين أسقطه من يد البطل، وه>ه رؤية اخراجية أراد أن يقول من خلالها أن الخروج من البلد موت، هنا رسالة مبطنة تلعب في لاوعي المشاهد، فكرة الح>اء جميلة وهي وإن >كرتنا بقصة سندريلا إلا أنها فكرة جميلة. التصوير تم في عام 2010 أي إنه ليس قديم  كثيرا، وهناك بعض اللقطات التي تبدو الكاميرا موضوعة على شاريو، وهي لقطات لا داعي لها، كان يمكن أن تكون الكاميرا ثابتة، بالنسبة لي أخرجتني ه>ه اللقطة من جو الفيلم. لكن يجب أن تعيش ه>ه المشاهد بطريقة مبالغة ه>ا الأمر مطلوب في ه>ه  النوعية من الأفلام لكي تقع في حب المكان، ولكي تعيش احساس معين.   

متداخلة: لدي ملاحظة بسيطة، كمشاهدة، فأنا ليس لدي أي خبرة في الاخراج، بقدر  قوة الفيلم على الأخص في البداية ، بقد رما كانت النهاية ضعيفة، ما الذي يعني أن نجده مقعدا، بالتأكيد هناك رسالة من وراء النهاية، لكنها ضعيفة بالنسبة لهذا الفيلم القوي بأحداثه وبرسائله خاصة تلك الرسالة التي ينقلها من وراء كسر الزجاجة التي تحوي تراب الوطن، شعرنا بها كثيرا لكن لا اعرف لماذا جاءت النهاية ضعيفة بهذا الشكل؟

منى الخواجة: تاريخنا وتراثنا أثرى من أي حضارات أخرى، اختلف مع اسم الفيلم موفق جدا

المقدمة:  النهاية جاءت بهذا الشكل، لان المخرج ربما طوال الفيلم يحاول أن يظهر مشاعره، ربما لم تكن هناك رسائل لكل ما جاء في الفيلم، ربما تكون قراءتي منقوصة، لكن الفيلم به جرعة كبيرة رومانسية كبيرة، ربما أراد أن يقول أن سوريا ستظل رغم الجراح بلد الحب وبلد الانسجام.

إحدى المتداخلات: كلمة دمشق نقطة ضعف بالنسبة لي رغم اني لم أزر سوريا لكن الحضارة الشامية قريبة إلى قلبي. الجانب الموسيقي في الفيلم والتداخل فيها هو سمة مميزة للأعمال السورية وهو أمر يعرفه جميع متابعين الدراما السورية. في العادة دائما الشام كما بغداد تربط بإمرأة أكثر من رجل سواء في المسلسلات أو في الأشعار يتم التغزل بها أو البحث عنها/ كما في أشعار محمود درويش ونزار قباني، للمرة الأولى احضر عملا يستخدم فيه رجل كرمز للوطن، تبحث عنه الحبيبة بدلا من أن يبحث عنها. طوال فترة الفيلم كانت تستحضرني أبيات من القصيدة الدمشقية لنزار  يقول فيها هذا دمشق وهذا الكأس والراح، إني أحب وبعض الحب ذباح، أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي لسال منه عناقيد وتفاح، وقصيدة أخرى كأنها مكتوبة له.

المقدمة: نظرة سريعة على بعض النقاط السلبية ومنها القصص الهامشية  التي جاءت ضمن القصة الرئيسية جاء بعضها خارج سياق الفكرة الرئيسة ولم تخدم الحدث الفعلي للفيلم بل شتت مشاعرنا وحرفت تركيزنا التي أردنا تركيزها مع البطلة.  ربما ارادها المخرج لتفريغ انفعال المتفرج مثل قصة الفتاة الريفية التي تريد الزواج من حبيبها رغم معارضة والدها لم تؤثر على سياق الأحداث في الفيلم، وقصة العم جهاد سعد وجوده غير ضروري، وقصة القس الذي تسمع حكايته في الدير ، وقصة الحب الجانبية التي تدخلها البطلة مع صديقها الفنان تتسبب في تشتيت مشاعر المتفرج.

نقاط سلبية أخرى ليس لها أي معنى  تحدث الأسرة باللغة العبرية لم يكن له أي معنى أو بعد فني، نعلم أنهم يهود يكفي ذكر العادات والأسماء وتفاصيل أخرى لدى اليهود. كذلك هناك شخصيات كثيرة في الفيلم ظهرت في مشهد واحد ثم اختفت.

وهناك أيضا فجوة أو ثغرة السردية فالأب يتوفى منذ بداية الفيلم ونتركه في ايطاليا ثم نعود إلى سوريا لنتابع رحلة طويلة تقوم بها البنت ونتوقف عن متابعة الأب.

لؤي التتان: الفيلم بشكل عام ممتاز  فكرة وتمثيل واخراج، لكن الفيلم عشوائي كان ينتقل من مشهد إلى آخر بشكل عشوائي وقد يطيل بعض المشاهد بشكل مبالغ فيه، أو أن تكون بعض المشاهد قصيرة جدا لا تستغرق لثوان، ربما يعود هذا إلى تقليده للأسلوب الأوربي، لكن المشهد الأوربي القصير ينفذ بشكل يثير فضول المشاهد.

الفنان حامد   البوسطة: بشكل عام في الانتاج العربي التركيز على النص، في المسر ح والسينما هناك أدوات، صورة، موسيقى، حركة وغير ذلك. هذه الأدوات يجب أن يتقنها المخرج وفهمهما بشكل صحيح. لكن هنا، بدت لي بعض المشاهد كما لو أن الممثلين لا يفعلون شيئا سوى أن يكرروا الحوار وكأنهم يقرأون نص أدبي فقط. بالإضافة إلى ذلك كانت الموسيقى مشتتة ولم يكن هناك أي وحدة فيها، حركة الكاميرا مبالغ فيها، تكرار الحركة في أكثر من مشهد يفقد الصورة رونقها.

مؤتمر النقد السينمائي: رؤية غير مسبوقة تستنطق جماليات السينما خارج إطار الصورة

نظمته هيئة الأفلام السعودية مطلع نوفمبر الجاري في مدينة الرياض

كتبت: منصورة الجمري

ما مدى ضرورة النقد السينمائي، اليوم؟ هل هناك من لا يزال يؤمن بضرورة النقد السينمائي بين أبناء الجيل الجديد من المشتغلين بالأفلام أو من المتابعين لها، على الأخص ووسائل التواصل الإجتماعي تعج بحسابات تصنيف وتقييم الأفلام وعرضها، وهي الحسابات التي يعدها عدد لا بأس به من رواد قنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعو هذه الحسابات، على أنها حسابات تقدم نقدًا للأفلام وربما كان نقدًا رصينًأ؟

هذه التساؤلات وغيرها الكثير راودتني طيلة تواجدي في مؤتمر النقد السينمائي الذي نظمته هيئة الأفلام السعودية في العاصمة الرياض في الفترة من 7 لغاية 14 نوفمبر 2023. ولأكون أكثر دقة فإنني لم أكن على ثقة بما إذا كان لا يزال هناك معرفة حقيقية بماهية النقد السينمائي، أو بالفرق بين النقد السينمائي الحقيقي بكل أشكاله، أكاديمية أو سواها، وبالثورة، أو الفورة في الممارسات الحاصلة في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعتبر ما تقدمه نقدا سينمائيا، وتنعت أصحابها بالنقاد السينمائيين.

إذن هل لا يزال النقد السينمائي ضروري؟ وهل هناك ضرورة لعقد مؤتمر للنقد السينمائي؟

بنظرة سريعة أولى تبدو الإجابة محسومة عن كل تساؤلاتي، إذ إن إقامة مؤتمر للنقد السينمائي، وهو الأول عالميا على ما يبدو على الأقل في العقود الأخيرة الماضية إن لم يكن على الإطلاق، وبمعايير دولية، وهو مؤتمر جاء ضمن مشروع متكامل إذ سبقته عدة ملتقيات متخصصة أقيمت في مدن متعددة في جميع أرجاء المملكة العربية والسعودية. المؤتمر والملتقيات جمعت المختصين وغيرهم في مجال النقد السينمائي وتم خلالها تعزيز الوعي بثقافة المشاهدة، وبالنقد ومفاهيمه وتطبيقاته. هذه النظرة الأولى والمسح السريع إذن للمشروع بأكمله يشير بشكل حتمي لأهمية وضرورة النقد السينمائي والإحتفاء به، والنقد المقصود به هنا سيكون قطعا النقد الرصين المبني على فهم حقيقي لماهية السينما ولعملية صناعة الأفلام ووعي ثقافة المشاهدة.

الأسبقية وتفرد الشعار

مزيد من الإجابات على اسئلتي جاءت حال أن وقع كتيب المؤتمر في يدي. المؤتمر أولا اختار لدورته الأولى شعارا هو بذاته يستحق التوقف عنده “ما وراء الإطار”، ثم إنه زين غلافه بعبارة مستعارة من كتاب “النحت في الزمن” لشاعر السينما ومنظرها، المخرج السينمائي الروسي أندريه تاركوفسكي، لشرح ما يعنيه ذلك الشعار “ما يشاهد داخل الإطار لا تحده الصورة المرئية إنما هو إشارة إلى شيء آخر يمتد خارج الإطار إلى اللانهائية، إشارة إلى الحياة”. ربما بدت لي العبارة مبشرة بما سيتضمنه المؤتمر، فهذه العبارة تشرح بشكل قاطع ما تعنيه السينما التي لا تتوقف مضامينها ورسائلها عند حدود الإطار، لكنها فعلياً تبدأ بعد ما وراء الإطار. هكذا يقدم منظمو المؤتمر أول رسائله، ليس لنقاد الأفلام فحسب، بل للمخرجين وصناع الأفلام والمهتمين بحضور المؤتمر أو بالكتابة حول السينما وعوالمها.

بعد هذا الشعار المبشر الذي شكل خير فاتحة لي لهذا المؤتمر، أدهشني ما وجدته خارج إطار هذا الشعار، احتفاء غير مسبوق بالنقد السينمائي وبالنقاد السينمائيين، بالمنظرين والمفكرين في هذا المجال وبأسماء غابت لعدم وجود وعي كاف بقيمة أصحابها وبتأثير رؤاهم حول السينما والحياة بشكل عام على ساحة النقد السينمائي وصناعة الأفلام. هيئة الأفلام جاءت لتعيد هؤلاء فجاءت صورهم مزينة الساحة الرئيسية المقابلة للمبنى الذي ضم فعاليات المؤتمر. ومن بين أبرز تلك الأسماء الناقد والمخرج المصري سامي السلاموني الذي رحل عن عالمنا عام 1991 بعد أن ترك إرثاً نقديا هامًا ما جعل كثير من معاصريه يعتبرونه واحدًا من أهم أعمدة الثقافة السينمائية في مصر والعالم العربي في فترة السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، وبالمناسبة فقد انتقل السلاموني، كما فعل يسري نصر الله، من النقد والكتابة السينمائيين إلى عالم الإخراج.

احتفاء بالنقد السينمائي

جاء حضوري لفعاليات المؤتمر ليقدم إجابة أكثر شمولية ودقة لاستفساراتي أعلاه، إذ إنه مكنني من القيام بنظرة فاحصة لهذا المشروع الفريد من نوعه، والذي يكشف عن وعي عميق لدى القائمين عليه في هيئة الأفلام السعودية بماهية السينما وبعملية صناعة السينما، وينم عن إدراك حقيقي لما تنطوي عليه هذه العملية وما تحتاجه من أسس وبنى تحتية. بدا واضحًا أن هيئة الأفلام في سعيها لتعزيز مكانة السعودية الثقافية والسينمائية عالميًأ، تعي تماما ما يعنيه أن يكون للسعودية قدم ثابتة في مجال صناعة السينما عالميا، ولذا فإنها لا تغفل أي عنصر وجزء من أجزاء هذه البنية التحتية، بدءا من تأسيس جيل متمكن من صناع الأفلام، وصولا إلى توفير كل ما تحتاجه صناعة السينما من فنيين وكتاب وعاملين في مختلف أجزاء صناعة الفيلم، وانتهاءا بتعزيز دور النقد السينمائي وبنشر الوعي به وبأهميته عبر مؤتمر مخصص، وهي بهذه الخطوة تقدم مشروعا رائدًا منحها شرف الأسبقية على كثيرين، وهو مشروع يبشر بمستقبل أكثر اشراقاً لصناعة السينما في المملكة العربية السعودية ولمستقبل السينمائيين فيها.

فعاليات المؤتمر وبرنامجه الحافل والثري شكل قصة أخرى، بل صنع واجهة مختلفة، أشد ألقا، للنقد السينمائي، وهو، أي البرنامج، الذي أُثري بمشاركات من قامات نقدية مهمة على مستوى الوطن العربي والعالم، من بينها المخرج المصري يسري نصر الله الذي تحدث خلال كلمته التي جاءت في حفل افتتاح المؤتمر عن بداياته النقدية التي قادته للإخراج وعن مدى تأثير قراءاته وممارساته النقدية على فهمه لجماليات السينما وتمثل ذلك الفهم في أعماله السينمائية التي يعد معظمها من أفضل ما أنتجته السينما المصرية طوال تاريخها. وبالمناسبة فقد عرض خلال المؤتمر واحد من أفلام المخرج يسري نصر الله وهو فيلم “صبيان وبنات” الذي أنتج عام 1996، وتلى الفيلم ندوة حوارية جاءت ضمن زاوية “بصحبة النقاد” وهي إحدى زوايا برنامج المؤتمر. وتمت الندوة بين مخرج الفيلم يسري نصر الله بصحبة رئيس الاتحاد الدولي لنقاد السينما “فابريسي” الأستاذ أحمد شوقي.

عبر الزاوية ذاتها، “بصحبة النقاد”، استضاف المؤتمر أفلاماً أخرى لها دلالات خاصة لدى النقاد السينمائيين، من بينها فيلم “ميكروفون”، للمخرج المصري أحمد عبد الله، وتلى عرضه ندوة حوارية ضمت محادثة بين مخرج الفيلم أحمد عبدالله، والمخرج السعودي عبدالمحسن الضبعان. وجاءت أهمية هذا الفيلم كونه شكل مسارا جديدا وجادا للسينما المصرية والعربية، حيث قدم فيلما من أفلام سينما المؤلف التي تعرف الفيلم بمخرجه. عرض المؤتمر عددا من الأفلام العالمية كما عرض أفلاما قصيرة متنوعة بعضها قدمه صناع سينما سعوديون فيما ضمت الأخرى مخرجين وصناع أفلام من دول أخرى في العالم.

خارج الإطار.. وبعيدا عنه “جدًا”

من أهم زوايا المؤتمر، زاوية الماستر كلاس التي استضافت في إحدى ندواتها أستاذ استطيقيا السينما بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، البروفيسور حمادي كيروم، وهومنظر سينمائي وناقد وأستاذ في جماليات السينما. وقد جاء “الماستر كلاس” الذي قدمه تحت عنوان “النقد بين المهنة والمعرفة”، وخلاله قدم كيروم رؤيته الفلسفية للسينما المبنية على نظرة استطيقية أي وعي حسي بالجمال وقدرة على استكشافه عبر السينما. كيروم استعرض أزمة النقد الكلاسيكي قبل أن يقدم رؤيته الخاصة في النقد، ثم طبق رؤيته النقدية الاستطيقية التي تناقش السينما وتستوعبها خارج إطار الصورة، وذلك من خلال فيلمين هما “سارقو الدارجة” الذي قدمه الإيطالي فيتوريو دي سيكا عام 1948، وفيلم “القربان” الذي قدمه أندريه تاركوفسكي عام 1986.  

ضم المؤتمر العديد من الزوايا التي ناقشت المفهوم والحاجة للنقد السينمائي، بعيدا عن النقد وخارج إطار الصورة، حيث تطرقت بعض تلك الزوايا لقضايا تتصل بالسينما وبنقدها السينمائي مباشرة أو بشكل غير مباشر، مثل المحاضرة التي ألقاها المفكر وصانع الأفلام وأستاذ الدراسات السينمائية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة جلال توفيق حول “حديث الفنان المغلق جذريا” والذي تناول من خلالها أعمال صناع الأفلام الذين يميلون لمناقشة قضايا الكيانات التي لا تمت للعالم أو للتاريخ بصلة. وهي موضوعات لا تخصص لها مهرجانات السينما أو ملتقيات صناعها أي مساحة، وربما لا تكترث لأهميتها بأي شكل من الأشكال، لكن مؤتمر النقد السينمائي الذي يعي صناعه شمولية واتساع أفق السينما والتنوع اللانهائي لاهتماماتها ولأطر تركيزها، فرد لها مساحة خاصة.

رؤية نافذة وإجابات واضحة

لن تسعني قطعا مساحة هذه الصفحات للحديث عن ذلك التنوع والثراء اللذين زخر بهما مؤتمر النقد السينمائي، والآفاق اللامحدودة التي سعى إلى اكتشافها أو إلى التنقيب فيها مستعينا بأساتذة ومفكري الدراسات السينمائية، وبالمثقفين وأصحاب الرؤى المنفردة من المخرجين وصناع الأفلام والكتاب والنقاد السينمائيين.

هذا البرنامج الحافل الذي احتفى بالنقد وبالسينما من زاوية طالما أهملتها ملتقيات السينما ومهرجاناتها، أجاب قطعا عن سؤالي عما إذا كانت لا تزال هناك حاجة، بل ضرورة وحاجة ماسة، للنقد السينمائي الرصين المبني على الفهم والدراسة العميقين للسينما؟

هي رؤية نافذة من قبل هيئة الأفلام السعودية، قائمة على وعي عميق ولعله يمكنني القول إنه غير مسبوق في الأوساط السينمائية العربية على أقل تقدير، ولا أتحدث قطعا عن الأوساط الأكاديمية، وليستميحني العذر كبار نقادنا السينمائيين، لكن مؤتمر النقد السينمائي سبق الجميع ببؤر تركيزه التي تجاوزت حدود كل ما كتب عن النقد السينمائي، عربيا على أقل تقدير.

نتمنى أن تستمر هذه المبادرة الواعية والمميزة على مستوى ثراء ما تقدمه لساحة النقد السينمائي أولا وللساحة الثقافية ثانيا، وللسعودية التي أضحت وجهة ثقافية محترمة ورصينة لقاطبة المثقفين العرب إن لم يكن لسواهم.

“ضعوه على يمينه”

اللحظة الأشد قسوة في حياتي، هي تلك التي أدركت فيها رحيل والدي. كان ذلك في صباح الثامن عشر من ديسمبر عام 2006. استفقت على مكالمة فائتة من شقيقي الأكبر. حمل هاتف زوجي مثلها. ردّدت بصوت عال لأقنع نفسي قبل زوجي، بأنه أراد إعلامنا بإشتداد مرض والدي ونقله إلى المستشفى، وإنه كعادته سيعود ليخبرنا بتحسن حالته ونقله إلى غرفة مستقلة. وبأننا سنزوره عصرا بكل تأكيد. لكن شقيقي لم يقل كثيرا، طلب منا الحضور، ثم قال لأحدهم: ضعوه على يمينه. توقف قلبي حينها، ثم شعرت بضرباته تمزق ضلوع صدري. ما الذي يعنيه ذلك، لا أعرف، رد زوجي، وخرج مسرعا ليتركني في حيرة خانقة.

سارعت للحاق به، خرجت على عجل لأجد الشوارع خالية على غير عادتها، هي الساعة المبكرة من الصباح، أو ربما هو البرد الذي كان ثقيلا هذا العام، ولعلها عيناي التي لم تكن ترى سوى الشارع يُطوى أمامها. الشوارع ذاتها بدت طويلة مملة خالية كئيبة، الأشجار على جانبيها بدت ساكنة. كل ما في ذلك الطريق كان ينبئ بما لم يشأ قلبي أو عقلي تصديقه. قبيل وصولي لمنزل والدي بدقائق رن هاتفي… هي بكل تأكيد محادثة عمل لكنها مبكرة على غير عادة، هكذا حاولت اقناع نفسي عبثا، وإن كان المتصل هو زوجة أخي!! عزتني. استنكرت بغضب ثم أغلقت الهاتف بعنف. وهناك في منزل والدي كان كل شيء ساكنا ينذر بألم، تماما كما الطريق. والدتي تجلس مع خالة لي، تتحدثان بصوت واهن، أرى وجهها محتقنا بالدموع، لكنني أتجه إلى غرفته، وأكاد أجزم حتى اليوم أنني سمعت صوت آناته حينها، أسالها وأنا أحث السير نحو سريره “عاد أبي؟” فترد خالتي… مات أبوك. …

مات أبي؟؟ محال.. يردد صوت غاضب بداخلي

يعود أبي بعد ذلك بسويعات، وحين يناديني شقيقي الأكبر للقاء أخير.. أدرك ما عناه بـ “ضعوه على يمينه”. أهذا الجسد المسجى المغطى برداء أبيض، هذا الذي يرقد ساكنا على بعد أقدام مني هو أبي؟. أنا لا أرى وجهه ولا عينيه ولا أسمع ضحكته. هذا ليس أبي. وإن كان هو، فسوف يرفع هذه الأكفان البيضاء عن وجهه بعد قليل، سيفتح عينيه المتقتدين حياة، وسيضحك مبتسما ثم سيناديني بنبرته الحنونة المعتادة لأقترب منه، وإن رفضت سيحضر هو ليحتنضنني كما يفعل دائما. سيفعل ذلك بكل تأكيد.

انتظرت طويلا، ولم تصدر عن الجسد أي حركة. الكفن الأبيض ظل يغطيه كاملا، لم يحرك كفيه التي ظلت تضغط أصابعي بحب كلما لامستها وكلما اقتربت من سريره، طوال مدة مرضه وحتى أسابيع قليلة قبل وفاته.

مات أبي؟؟؟ لكنه كان هنا مساء السبت على هذا السرير، نعم كان جسدا أنهكه المرض، لكنه لم يمت. كما أنني أريد أن أزوره مرة أخرى، أن أجلس إلى جواره، أن أستمع إلى قصصه وأحاديثه، وأن أراه جالسا مع والدتي يتناول عشاءه فيما يقص عليها أخبار يومه.

كيف يموت أبي وصوته باق في كل زوايا المنزل وهو ينادي أمي “زهور، وردة البستان، حديقة الحوش”، ورائحة العود الكمبودي التي يحبها تملئ أنفي عبقا كلما دخلت منزله، كيف يموت وأنا أشعر دفء روحه المحبة حتى اليوم.

أتساءل إن كنت سأدخل مكتبته يوما فأراه عاكفا على كتاب ما وأمامه كراسة صغيرة يدون فيها ملاحظاته. ولعله سيكون جالسا على مقربة من والدتي يروي لها بحب قصة ما، أو مع ضيوف له في “المجلس” أو أنه سيعود قريبا لابساً “بشته وجبته وعمامته”. سيدخل باسما، ضاحكا، سيقول أن موته لم يكن سوى نكته سمجة. وأنه لا يموت!

أبي الحبيب..

لن أنسى الساعات الطويلة التي وقفت فيها أنتظر انتهاء تلك المسيرة الطويلة التي شيعك فيها كل من أحبك إلى حيث ستدفن، أتذكر تماما كيف كانت رجلاي وهنتين، لا تقويان على حمل جسدي، وكيف أتكأت على حائط أنتظر من وراءه وصول نعشك، لعلني أحظى بنظرة إليك، أو ربما لمحت طيفك يحلق فوق جنازتك المهيبة.

اليوم وها قد مرت سبعة عشر عاما مذ ترجلت، أدرك تماما أنه ما مر بقلبي حزن كحزن فراقك يا أبي، وما عشت ألما  كألم رحيلك، ولا كسرة ككسرة فقدك، رحيلك أفقدني جزء من روحي وقطعة من قلبي وخلق جرحا لم يندمل في صدري حتى اليوم.

لكنني اليوم، وفي مقابل ذلك أدرك أن الأراواح الصادقة بقولها وفعلها باقية وإن بليت الأجساد، وأن الحب خالد سرمدي، وأن الآباء لا يموتون، وأن أبي لم يمت ولن يموت. 

المصور الحداد: المنامة … لا شبيه لها

أوان – منصورة الجمري

حكاية المصور الفوتوغرافي جعفر الحداد مع المنامة تمتد لسنوات طويلة، لعلها تقارب سنوات عمره التي لا تتجاوز العشرين وبضعة أعوام. أعلنها رسمياً منذ ما يقرب من العشرة أعوام عبر صور فنية متنوعة قدمها في معارض جماعية مختلفة ومعرض فردي واحد.

لكن البدايات الحقيقية لعلاقة جعفر بالمنامة تعود لما قبل ذلك بكثير، تحديداً، لسنوات طفولته الأولى، ومنذ بدايات إدراكه، حين تعرف عليها من خلال جده الذي ملكت المنامة ذاكرته ووجدانه. داوم على مقاهيها حتى أعجزته سنوات عمره، فأورث الحفيد عشقه. لكن جعفر، وهو المعماري والفنان التشكيلي والمصور الفوتوغرافي، يعلم جيداً بأن عشقه يمكن أن يُترجم بطريقة مغايرة. عرف أن عليه أن يسخر فنه وامكاناته في توثيق محبوبته، وهو يعلم جيدا بأنه لكي يتمكن من فعل ذلك، فإن عليه أن يلتقط صورا استثنائية، تستدعي منه مراقبة محبوبته عن كثب، وبدلا من الجلوس على مقاهيها وتصفح وجوه سكانها، كما فعل جده، أُغرم جعفر بالتجوال في شوارع المنامة والتسلل عبر أزقتها وحواريها.

ولأنه مغرم، كانت حصيلة غرامه تلك، كثير من الصور الاستثنائية الشاهدة على تاريخ هذه المدينة، الموثقة لكل ما تحمله شوراعها اليوم من شواهد على عصر مضى، وتحولات لم تتوقف، وتاريخ لعله لم يُعرف، ولربما لم يُقدر كما يليق به، وكما تجعلنا الصورة نفعل الآن.

“أوان” حاورت جعفر الحداد، حول حميمية الصور وكيف يمكن لها أن تفضح عشقنا للمدن والأماكن، وحول ما يمكن أن يكون لخطه في التصوير الحضري وتصوير الشوارع (المنامة) من أهميه للأجيال القادمة والحالية، حول ما يعنيه توثيق الصورلوجوه المنامة، تنوع سكانها، هندسة شوارعها، وتصميم مبانيها.

كمصور فوتوغرافي تهتم كثيرا بتوثيق الأماكن، وعلاقة المدن بسكانها، تستأثر المنامة بجزء كبير من اهتمامك هذا عبر أعمال متنوعة قدمتها في معارض مختلفة أقيمت على مدى ما يقرب من عشرة أعوام. ما سر هذا الإهتمام، والذي تعنيه لك المنامة، كشاب بحريني وكمصور فوتوغرافي؟

ولدت و ترعرعت في الحورة الحدادة، قرية تقع غرب المنامة، تؤكد الوثائق وجودها قبل ألف سنة من اليوم، أي قبل وجود المنامة بأكثر من خمسة قرون. وحينما وجدت المدينة العاصمة، أصبحت الحورة الحدادة حي صغير ضمن المدينة، حي بمجتمع قروي مترابط ومنغلق بعض الشيء، لكنه أيضًا جزء من المدينة و متكيف معها. غير أن أجدادي، هم الملاك لسوق الحِدادة في سوق المنامة، سوق البحرين المركزي والأكثر حيوية قديمًا، لذلك لطالما كنت فخورا بأنني أملك عنصرين مهمين، الأول هو تذكرة الدخول للأجزاء الداخلية للمنامة – وأقصد هنا إدراكي بها والقدرة اللوجستية على وصولها مشيًا على الأقدام – كوني أعيش في حي من أحياء المدينة. والعنصر الثاني هو العين الخارجية – و أعني هنا القدرة على ملاحظة الأشياء وتحديدها كعنصر خارج إطار عجلة الحياة اليومية في المدينة – لأنني ليس جزء من مجتمعها وأحيائها الداخلية “الفرقان” بصورة أو بأخرى.

هل يعني اهتمامك الطويل بالمنامة في مقابل سنوات عمرك إلى علاقة بدأت مبكراً؟ عمرك في التصوير على أية حال، مقارب لعمرك في توثيق المدينة؟ من سبق الآخر في حياتك، حب المنامة أم حمل الكاميرا؟

علاقتي مع المنامة بدأت بنظري منذ اللحظة التي ولدت بها، متأثرًا بها ومؤثرا فيها – ولو بصورة مجهرية الحجم، لكن المفارقة العجيبة، أنني لم أدرك هذه العلاقة، ولم أدرك حقيقة العنصرين اللذان أمتلكهما إلا بالصورة.

بدأت التصوير في عام 2008، لكن رحلتي الفوتوغرافية في المنامة بدأت عام 2013، وأدركت كل هذا الزخم في منتصف 2014، أول أيام إنتاجي لمشروع “صور متعددة لمدينة المنامة”. ثم بدأت البحث التاريخي والرحلات الميدانية – شبه اليومية – الموجهة في عام 2015، ثم جاء التدوين في مدونتي الخاصة حول هذا الموضوع بالتحديد في عام 2016. بعدها أحتجت لثلاثة أعوام كاملة، إلى جانب العديد من التجارب، كي أستطيع تقديم مادة حول المدينة وأحوالها العميقة، في معرضي الشخصي “مدينة الشرق/ الشوق” في عام 2019.

ما أرنو لقوله هنا، أن الصورة الفوتوغرافية، ومحاولتي لإدراك معانيها، كانت هي وسيلتي في إدراك معانٍ أخرى في هذه الحياة، إحداها هو قدرة هذا المكان – وأعني المنامة – في إبهاري. إنني أرى في هذه المدينة القدرة على تعليمي الكثير من الأشياء، حول الحلم لدى الانسان، الطموح وتحديات الحياة، دائرة الحياة اليومية للبشر، وإسقاطات كل هذا في شتى مآرب الحياة. المنامة بالنسبة لي كتاب مفتوح، أحاول قراءته وفهمه لكي أزداد في فهم الحياة. الحق يقال بأن هذا الحال قد يكون حال مدن عديدة حول العالم، فكل مدينة هي كتاب ورواية، لكنني لا أرى لكتاب المنامة وروايتها شبيه في المنطقة بأسرها.

أي جانب من تاريخ المنامة ذلك الذي توثقه صورك، وما أهمية ذلك التوثيق، لك كشاب، وللأجيال الشابة الحالية والقادمة؟

تعتمد أعمالي بشكل رئيسي، على توثيق الحالة المكانية للمدينة، المكان والشخوص. صور يمكنها أن ترصد الزمن، المكان، الشخوص، وعلاقاتهم مجتمعين ببعض. هذا النوع من التوثيق إذا ما ربط بنصوص وصفية مصاحبة، يمكنه أن يحمل عمق أكثر ومعانٍ أكبر، يمكن الاستفادة منها لاحقا في مشارب عدة، في فهم طبيعة عمارة المكان، في فهم تأثير الضوء والظل والزمن، في فهم الشخوص التي تشغل المكان، في فهم طبيعة استغلالهم للمكان، فيهم هم، من حيث الملبس والظاهر. قد يبدو ما أركز عليه في صوري هو العِمارة، لكن إذا أمعنا النظر في صور العِمارة والمكان هذه، سنرى بأن الإنسان لا ينفك عنها، كما لا ينفك عنها الزمن، الضوء والظل، والنصوص المصاحبة. بالمختصر، ما أحاول توثيقه هو التجربة المكانية في المنامة في هذا الوقت، وهي كبسولة زمنية، تحفظ التاريخ بتفاصيله الصغيرة جدا للمستقبل، وهي تجربة أحاول جاهداً مشاركتها مع أقراني الشباب. كشاب بحريني، أرى بأن الشباب اليوم يجهل الكثير من تاريخ هذه المنامة، التاريخ الذي يمكنه أن يتحدث عن نفسه، ليخبرنا كيف نتجاوز مشاكل اليوم، وكيف نخلق مجتمع شمولي متكاتف كما هو مجتمع المنامة بوصف التاريخ، المجتمع الذي أنتج الأحلام ومنامة اليوم.

قدمت المنامة عبر صور كثيرة اشتغلت من خلالها على ثيمات وتقنيات متنوعة من أجل الوصول لغاية التوثيق والاحتفاء بالمنامة، مكاناً وشخوصاً. وقد أبرزت جهدك هذا بالشكل الأكبر عبر معرضك الأخير الذي أٌقمته عام 2019 تحت عنوان مدينة الشرق/ الشوق.. كيف أرضى المعرض شغفك التوثيقي؟

معرض مدينة الشرق/ الشوق هو معرضي الشخصي الأول، والتجربة الأولى لي في خلق مساحة تتناول موضوع واحد محدد بأبعاد عدة. فكرة صنع معرض شخصي في حد ذاتها لم تكن في مجال تفكيري سابقًا أبدًا، فأنا لا أزال أرى بأنني في مجال واسع، أنمو فيه كل يوم، اكتشف المزيد، وأسعى لصنع فن بصري أكثر نضوجاً من سابقه، يومًا بعد يومًا. ويجب عليّ أن اشكر في هذا الصدد إدارة بيت السلمانية، إلهام فخرو و طاقم العمل معها، الذين سعوا لإتاحة الفرص لي، لكي أقوم بأخذ هذه الخطوة، وأنشىء وسيلة تواصل أعمق بيني و بين الجمهور والساحة الفنية في البحرين. كانت رحلة طويلة، على مدى سنة أو أكثر، من التحضيرات و السعي وراء الفن والرسالة. رحلة علمتني الكثير، وأفخر بها، كما أفخر بكل من ساعدني في إنجاز المعرض.

وفي إطار التحضير المبدئي لهذا المعرض، كنت في خضم رحلة تدويني التي عنونتها بـ “رحلة في المدينة” والتي اختتمت سنتها الرابعة في شهر مايو 2019 وهو ذات الشهر الذي أقيم فيه المعرض. كانت رحلة تدوينية لإعادة استكشاف المنامة بصورة شخصية. كان السؤال حينها كيف يمكن عرض هذا المحتوى الذي أجمعه بطريقة قريبة من المجتمع، طريقة تتيح الفرصة للمجتمع بأن يرى ما كنت أراه في رحلتي، يلمسه و يتفاعل معه. لذلك قبلت التحدي، في أن اصنع معرض شخصي، يبني تجربة متكاملة للمشاهد، تجربة يستحضر معها المنامة، كمدينة شاهدة على تغير أحوال الزمان و أحلام الناس، رحلة قريبة للمشاهد، رحلة شخصية معي، و أتمنى أن أكون قد وفقت لهذا.

في سبيل الوصول لهذه الغاية، كان المعرض يتألف من أربع مجموعات فنية، عملين تركبيين (installation artworks) هدفهما هو الدفع بالمشاهد للسؤال والتفكر في عمق علاقتنا بالمدينة. بالإضافة إلى “صورة متعددة لمدينة المنامة – المجموعة الكاملة” وهي أعمال فوتوغرافية بتقنية التعريضات المتعددة، تسلط الضوء على العلاقة الفردية بين الانسان و المكان في المنامة. أما المجموعة الفنية الأخيرة، وهي الأهم في رأيي، فهي التي كان عنوانها “قراءات حول مدينة المنامة” والتي تضم طاولة خشبية مصنوعة باليد تمتد بطول ثمانية أمتار و عرض مترين، تأخذ شكل ثلاثة من أهم شوارع المنامة. تحمل هذه الطاولة، جزءًا مختصراً من رحلة بحثي و تدويناتي: مجموعة من المباني التي تحكي تاريخ المدينة، قراءات وصور حول كل مبنى، ومواد معماري تحليلية. كلها معا، جنبا إلى جنب، مع صور فوتوغرافية على الجدران، تحمل مشاهد مميزة لمدينة المنامة.

أيهما أهم بالنسبة لك كموثق فوتوغرافي، الجانب الجمالي في الصورة أم المعلومات والتفاصيل التوثيقية التي تحتويها الصورة؟

بالنسبة لي، أرى أنني فنان الرسالة والهدف قبل أن أن أكون فنان جمالي – بمعنى أن أكون فنان مهتم أولًا وأخيرًا بنقل جماليات المشهد البصري فقط – وهذا يعني أن الثيم هو ما ابدأ به، الرسالة والهدف، الغاية والجمهور، ثم بعد ذلك، أحرص على الحصول على الإطار المطلوب بشكل جمالي يجذب المشاهد، ويثبت المشهد في عقله، و يخلق تجربة محببة لديه.

معظم صورك الموثقة لمدينة المنامة أحادية اللون “أبيض وأسود”. هل لذلك أي أهمية ذات علاقة بالثيمة وبالهدف التوثيقي، أم أن الأمر لا يتعدى اختيارا وذائقة فنيين؟

كل الصورة في المعرض هي أحادية اللون “أبيض وأسود”، لأنني أرى أن الصور الأحادية تجعل المحتوى أعمق، والاحساس بالضوء والظل بالنسبة للمشاهد أفضل، وهما عنصرين مهمين في نقل التجربة المكانية عن طريق الصورة الفوتوغرافية. خليط بين تصوير الشارع والبورتريه.

بمناسبة ثيمة الضوء والظل، أرى أنك تركز كثيرا على هذه الثيمة في معظم أعمالك الفوتوغرافية بل إنك خصصت لها مشروعا أسميته بمشروع “الانسان مقابل الضوء”. كيف توظف هذه الثيمة في الاحتفاء بتاريخ المنامة؟

الانسان مقابل الضوء، هو المشروع الفوتوغرافي الأول الذي عملت عليه. بشكل أو بآخر، كان هذا المشروع هو تجربة شخصية عميقة لإدراك الصورة والموضوع، الضوء والظل، الانسان والمكان. كلمات عميقة في المعنى، كبيرة في الإدراك، لكنني أرى أن التجربة القصيرة هذه – التي امتدت على ما اذكر لسنتين أو ثلاث – جعلتني أدرك أن القيمة والعنصر الحقيقي في الصورة الفوتوغرافية بطبيعة الحال هو الضوء، لكنه دائما ما يكون في ثنائية مع الظل. إن القدرة على تطويع هذه الثنائية في الصورة، هو ما يجعل الصورة كمادة بصرية قادرة على جذب المشاهد والتخاطب معه. سعيي لنقل التجربة المكانية – أو علاقة الانسان بالمكان – في المنامة للمشاهد، جعلني أطوع هذه الثنائية، الضوء والظل، في كل الأطر الفوتوغرافية، التي تحمل هذا المضمون. أنا بصورة شخصية أرى الضوء هو ما يخلق لدينا المكان، فهو الوسيلة الأهم لإدراك المساحة والمكان. جزء كبير من علاقتنا مع المكان، هو في علاقتنا مع الضوء. وفي بيئة مثيرة للاهتمام بثنائيات الضوء والظل مثل المنامة، يبدو الموضوع برمته مكون من طبقتين، الانسان والضوء، في المكان”.

يعرف جعفر أن لكل مدينة مذاقها الخاص ونكهتها المميزة. يعرف أن بعض المدن كالمنامة تحمل من التفاصيل ما يجعلك في حالة حنين دائم، للمكان، المنامة، الذي يحمل قدرة اسثنائية لأن يخبرك بكل قصص المنامة، عبر الأزقة والحواري، عبر شارع الشيخ عبدالله، والسوق القديم، عبر “فرجان” المنامة، عبر وجوه أهلها من “المناميين” ومن سكانها من مختلف الجنسيات. كذلك هي صور جعفر تخبرك قصص هؤلاء، تخبرك عن علاقة هؤلاء بمدينتهم، كيف يرتبطون بها وكيف ينفصلون عنها. تقدم لك تصريحاتها عن الحياة في المنامة اليوم، عن الجانب النفسي وذلك البيئي، وقبلهما الهندسي للمنامة. عن تنوع أجناسها عن شموليتها عن دفئها وحميميتها. عن المنامة كما لم نعرفها.

https://www.awanbh.com/single-post/المصور-الحداد-المنامة-لا-شبيه-لها

فيلم” القط”: توثيق خارج النمط وروبن هود دموي

أوان – منصورة الجمري

إبان عرضه عام 2014، وجه بعض النقاد والكتاب السينمائيين (المصريين تحديداً) انتقادات شديدة، كان بعضها لاذعاً، لفيلم “القط”، وهو خامس أفلام المخرج المصري “المستقل” ابراهيم البطوط، إن أخذنا في الحسبان فيلمه القصير الأول “إيثاكي” (2005)، والرابع على قائمة البطوط إن تحدثنا عنه كمخرج أفلام وثائقية، وذلك بعد “عين شمس” (2009)، “حاوي” (2010)، “الشتا اللي فات” (2013)


مجمل الانتقادات التي وُجهت لفيلم “القط” ركزت على شخصيات العمل، التي وجدها البعض متناقضة غير منطقية، فيما ركزت انتقادات أخرى على ما توحي به شخصية “الكبير” التي قدمها الممثل الراحل فاروق الفيشاوي، مشككين في كونها تجسيد للذات الإلهية، عدا عن اشارة البعض لحركة الكاميرا واعتبارها حركة مشوشة ومزعجة للمشاهد، على الأخص مع تكرارها في عدد كبير من مشاهد الفيلم، هذا بالإضافة إلى الإتهام الذي وجهه بعضٌ ممن شاهدوا العرض الأول للفيلم، والموجه للبطوط، حيث أُتهم بـتشويهه لصورة لبلاده، وبلا واقعية القضايا التي يطرحها الفيلم، وكذلك بعدم صحة تمثيله لحواري مصر بالأماكن البائسة التي صور فيها فيلمه. بالطبع هناك انتقادات أخرى، لكنني أكتفي بهذا القدر من الانتقادات التي يمكن لها تدمير سمعة أي عمل فني، وهي في الوقت ذاته انتقادات تفوح منها رائحة التجني على مخرج غير اعتيادي يقدم مادة سينمائية مختلفة عن النمط السائد.

أما بخصوص الشخصيات المتناقضة، فهي إلى حد كبير منسجمة مع الإطار العام للفيلم ومع النوع الفني الذي يقدمه إبراهيم البطوط. إذ عُرف ابراهيم، منذ فيلم “عين شمس” على الأقل، بتقديمه لأعمال روائية ذات طابع وثائقي عاكس بشكل “قد يزعج البعض” لواقع مصر أو واقع العالم الذي تصوره تلك الأفلام. هذه الواقعية ستفرض إذن شخصيات واقعية، لا شخصيات سينمائية خيالية وحسب، وهو ما أنتج في هذا الفيلم شخصية القط الذي يقوم بدوره الممثل عمرو واكد، “البطل المذنب” الذي يصعب على المشاهد تحديد موقف أخلاقي منه. لكن هذا البطل المذنب واقعي في ظل ما يفرضه الواقع البائس المظلم للمجتمع الذي يصوره الفيلم وهو واقع تعمه الفوضى ويغيب فيه الحساب وسلطة القانون، ويأتي “الكبار” فيه على رأس قائمة الأشرار القتلة أو من يقف وراء عتاة المجرمين ويدعمهم. القط ليس شخصاً سيئاً، بحسب الفيلم، وليس “بلطجياً”، وإن بدا كذلك، لكنه “روبن هود”، يقتفي أثر المجرمين وينزل بهم العقاب حين لا يوجد من يردعهم عن ارتكاب تلك الفظاعات. لكن نسخة روبن هود التي يقدمها البطوط هذه، دموية ترتكب الجرائم بدم بادر، تصنع القنابل وتفجرها، وهي غير منسلخة عن ذاتها مضحية بكل شيء من أجل الآخرين، كما هو روبن هود، فالقط ينتقم لنفسه ويأخذ بثاره أولا ثم يفعل ذلك للآخرين. صحيح أنه يروع الآخرين بدموية جرائمه، وربما اضطر لأن يغدر ويباغت ويفاجئ البعض، لكن كل ضحاياه أو أهدافه، إن صح القول، هم من مرتكبي الجرائم والقتلة، وذلك هو تبرير الفيلم، غير المنطوق، لجرائم “القط”. البطل المذنب وهو القط هنا، وهو واقعي بحسب منطق الفيلم، وواقعي بحسب الظروف التي يعيشها، وكذلك بحسب الواقع الحقيقي المعاش في مجتمع يُختطف فيه الأطفال لتنتزع أعضاؤهم وتباع.

في فيلم “القط” الذي جاء عرضه الأول خلال فعاليات مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي عام 2014، يسلط إبراهيم البطوط الضوء على قضايا يعاني منها المجتمع المصري، أو مجتمع الفيلم، من بينها اختطاف الأطفال، على الأخص أطفال الشوارع، سرقة الأعضاء البشرية، زواج القاصرات، شره البعض وطمعهم حتى لو عنى ذلك ارتكابهم لأبشع الجرائم لاشباع ذلك الجوع والنهم الدائم للمال.

صُور الفيلم في أحد الأحياء المصرية الشعبية “الحقيقية”، لا داخل استوديو ولا بداخل مدينة الانتاج، الاعلامي، بكاميرا ابراهيم البطوط الصحافية، الموثقة للواقع على الدوام، وحتى وإن أدت دورا سينمائياً هنا، إلا أن روح الصحافي المتتبع للحقائق تظل دائما واضحة في كل أفلام ابراهيم البطوط تقريباً.

منذ بداية الفيلم ستتابع هذه الكاميرا القط وهو ينتقل بنا عبر المكان، حيث أزقة وحواري ضيقة مظلمة حالكة تفوح منها روائح فقر مدقع، ومواطنون بائسون يعيش عدد منهم حالة انتظار غير مصرح به. تتواطئ تلك التفاصيل مع حركة الكاميرا المتتبعة Tracking Camera لتشرح للمشاهد ماهية تلك الأماكن التي ترتكب فيها مختلف أنواع الجرائم بكل سهولة ويسر، والتي يمكن وصفها بمسرح لارتكاب أبشع الجرائم، ليس بالضرورة على يد قاطني تلك الأحياء لكن حتى من قبل ساكني الشقق الأنيقة والقصور القديمة والأحياء الراقية، ممن يجدون فيها ملجئً وحيزا مناسبا لارتكاب البشاعات دون أن تصلهم يد الرقيب أو المعاقب.

أما فيما يتعلق بشخصية “الكبير”، العليم بكل شيء والموجه ربما لأفعال الشخصيات الذي يحرضها على ارتكاب مختلف أنواع الجرائم إن صنفنا البطل كبلطجي، أو الأفعال الجزائية والعقوبات إن نظرنا له كبطل آثم. هذا “الكبير” الذي شكك البعض في كونه اشارة وتلميح للذات الالهية، ربما، كان تحايلا من البطوط، لتضمين اشارة سياسية في فيلمه، لكن عبر الايهام وعبر شخصية خيالية، فيها من الذات الالهية صفات كالحضور الدائم والعلم بما ظهر من الأمور ما بطن من النوايا. البطوط، على أية حال، واجه منعاً لفيلمه الأول “عين شمس” وليس غريبا أن يمتنع عن التصريح ببعض الاشارات في هذا الفيلم، ما قد يتسبب في جعل مصير هذا الفيلم مشابها لسابقه، وربما كان مصيرا أسوأ. ربما جاء ادخال شخصية “الكبير” لاضفاء طابع خيالي، اسطوري، ينقذ الفيلم أيضا من سطوة الرقابة في بلاده.

في النهاية، فيلم “القط” هو عمل فني قابل لقراءات عديدة، وكذلك هي شخصياته التي يمكن تشبيهها أو تفسير الاسقاط الذي تقدمه، بشكل مختلف من قبل كل مشاهد، كلٌ بحسب ما يريد. المقلق فقط في هذا الأمر هو حمل الفزاعة الدائمة، التي يمارسها البعض في العالم العربي، وهي فزاعة الالحاد والشرك بالله أو التجني على الدين أو على الذات الالهية. هذه الفزاعة التي يجد فيها كثيرون وسيلة ناجحة وناجعة لمواجهة أي عمل فني وانتقاده، رغم حقيقة كون العمل الفني عامة، وأعمال البطوط بأشكال خاصة، أعمال خاضعة لعدد لا يحصى من القراءات والتفسيرات ومتضمنة لكثير من الدلالات والاسقاطات.

في “القط” يصالح البطوط يصالح بين الخير والشر عبر شخصية “القط”، ويتحايل ربما على الرقابة عبر شخصية الكبير التي تراقب ارتكاب افظع الجرائم دون أن تتدخل لكنها تسهل لمعاقبي القتلة عملهم، وتباركه لهم. وهو في الوقت ذاته، يمارس عمله الصحافي المعتاد، موثقاً للواقع الذي يفضل البعض مشاهدته من وراء نظارات سوداء متهالكة. فيلم “القط”… خروج عن النمط وواقعية لاذعة مزعجة.

https://www.awanbh.com/single-post/فيلم-القط-توثيق-خارج-النمط-وروبن-هود-دموي

رأس المال في القرن 21… نظرة متعمقة لنظام مهترئ

إعداد وترجمة : منصورة الجمري

في نهايات عام 2019، خلال الثلث الأول من شهر سبتمبر تحديدًا من ذلك العام، قدم الإيرلندي جستن بيمبرتون، مخرج الأفلام الوثائقية الحائز على عدد من الجوائز، فيلمه الوثائقي المأخوذ عن واحد من أشهر الكتب الاقتصادية، وهو فيلم “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” Capital in the Twenty-First Century.

ويستند الفيلم إلى واحد من أهم وأقوى الكتب الاقتصادية وأوسعها انتشارا وهو كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” Capital in the Twenty-First Century لمؤلفه الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي.

وقد أثار هذا الكتاب إبان نشره عام 2013 جدلا حادا بين اقتصاديي العالم، لكن الاقتصادية الأميركية وواضعة استراتيجيات السوق ستيفاني فلاندرز، كتبت مقالا مطولا في صحيفة الغارديان حول الكتاب، أشارت فيه إلى “أنه كتاب هام جدا ويجب أن يتفق الجميع على ما جاء فيه”، موضحة أن أهميته تكمن في تناوله لموضوع هام هو موضوع اللامساواة، مؤكدة أن المؤلف هو أكاديمي اقتصادي محترم وأن الأرقام الواردة في الكتاب لاثبات نظرية الكاتب هي أرقام حقيقية. ولعل أهم مزاعم الكتاب، كما تشير ستيفاني، هو: “أن عدم المساواة في الدخل قد ازدادت بشكل حاد منذ أواخر السبعينيات، مع حدوث ارتفاع كبير بشكل > خاص في حصة الدخل الإجمالي التي تذهب إلى أصحاب الدخول الأعلى”.

وتقتبس ستيفاني إحدى إحصائيات بيكيتي التي تصفها بأنها “الأكثر اقتباسًا” والتي “لم يشكك فيها أحد”، والتي تشير إلى أن 60٪ من الزيادة في الدخل القومي للولايات المتحدة في الثلاثين عامًا التي تلت عام 1977 ذهبت إلى المتربعين على قائمة أصحاب الدخل الأعلى التي لا تزيد على 1% من السكان، وأن القسم الوحيد من سكان الولايات المتحدة الذي كان أداؤه أفضل من هؤلاء هم الذين يشكلون نسبة العشر من قائمة الـ 1٪، وأن أعلى 100 شخص على قائمة الـ 1٪ حققوا الأداء الأفضل على الإطلاق.

وعودة إلى الفيلم، وبحسب موقع آي ام دي بي للإفلام، فإنه يقدم رحلة تفتح عين المشاهد على عالم الثروة والسلطة، وبأنه يفكك الفرضية الشهيرة التي تشير إلى أن تراكم رأس المال يسير جنبا إلى جنب مع التقدم الاجتماعي، وهو ما يسلط ضوءًا جديداً على العالم من حولنا وعلى اللامساواة التي تتفاقم فيه. يأخذنا الفيلم في رحلة عبر الزمن منتقلاً من الثورة الفرنسية ومن تحولات عالمية ضخمة، وصولاً إلى الحروب العالمية وانتهاءًا بعصر التقنيات الحديثة الذي نعيشه اليوم، مضيفًا إلى ذلك لقاءات ومقابلات مع أشهر الخبراء في العالم.

حول الفيلم نشرت صحيفة الغارديان مقالاً وصفته فيه بأنه “فيلم مرعب بتفاصيله الكثيرة” وبأنه “نظرة متعمقة لنظام مهترئ”، وبأنه يتميز “بمونتاجاته المذهلة والتعليقات الذكية التي يزخر بها”.

وبحسب مقالة الغارديان “يروي الفيلم قصة مألوفة للغاية، لكنها شديدة الكآبة وقادرة على تخديرنا بشكل مروع، تماما كما يفعل مشهد سينمائي يصور بشكل بطيئ حادث سيارة بدون سائق، لكنه مأخوذ من زاية مقعد أحد الركاب”.

ويواصل المقال “يزعم بيكيتي بأنه في القرن الحادي والعشرين أصبحت الثروة أكثر تركيزًا في شكل رأس مال مملوك من قبل قلة قليلة ممن يعيشون بسعادة على دخل هائل يتزايد باستمرار، تماماً مثل الأرستقراطيين الذين كانوا يعيشون في أوروبا في الفترة التي سبقت الثورات الأوربية والتي سبقت عصر بريطانيا غير الثوري. كما يزعم بأن القوى التي حفزت الثورة الصناعية سياسياً والحركات الديمقراطية الواسعة في القرن العشرين وهي: الصفقة الجديدة، ودولة الرفاهية، وتنظيم البنوك، وضوابط الإيجارات، وغير ذلك، تبدو الآن وكأنها صورة عابرة”.

كما يشير كاتب المقال إلى أن الفيلم “يلقي في البداية نظرة سريعة على سقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية السوفيتية، ثم يقدم مونتاجاً مذهلاً يصور رحلة انتصار الرأسمالية وتجاوزاتها الفظيعة، التي تشمل الاستثمار العالمي فائق الثراء في العقارات، تلك المنطقة التي حققت الحلم الريجاني المتمثل في اقتصاد “التسرب” “trickle down”: وهو ما يضخم أسعار العقارات من القمة إلى القاعدة، مما يعود بعوائد مالية ضخمة على الكهول، بينما يجعل امتلاك العقارات أمراً بعيدًا عن متناول معظم شباب العشرينات”.

وبحسب نظرية “التسرب” فإنه يتم تقليص الضرائب على الشركات والأثرياء في المجتمع كوسيلة لتحفيز الاستثمار في الأعمال التجارية على المدى القصير وإفادة المجتمع ككل على المدى الطويل.

ويضم الفيلم تصريحات هامة جاءت على لسان مراقبين اقتصاديين من بينهم مؤلف الكتاب توماس بيكيتي نفسه، بالإضافة إلى الكاتبة الصحافية البريطانية جيليان تيت وهي محللة الأسواق المالية في صحيفة الفايننشال تايمز، وبول ماسون مؤلف كتاب (ما بعد الرأسمالية) Post Capitalism ، والمؤرخ الاقتصادي فرانسيس فوكوياما الذي وصفه كاتب مقال الغارديان بأنه “الذي لم تتأثر سمعته بمزاعمه التي أطلقها منذ ثلاثين عامًا بأن انهيار الاتحاد السوفياتي يعني انتصار الديمقراطية الليبرالية و”نهاية التاريخ””.

ويختم الكاتب مقالته داعيا عددا كبيرا من الدول إلى المصادقة على الاقتراح الوارد في الفيلم، وهو اقتراح بيكيني “بفرض ضريبة ثروة تصاعدية”.

https://www.awanbh.com/single-post/رأس-المال-في-القرن-21-نظرة-متعمقة-لنظام-مهترئ

مطلوب مخرجات … الجندر ليس نوعاً سينمائيا

أوان – منصورة الجمري

بدايات العام 2018 نشرت صحيفة الغارديان مقالا لمحرر السينما لديها غاي لودج انتقد فيه إحدى شبكات بث الأفلام عبر الانترنت لتخصيصها موسما لأفلام المخرجات النساء. أشار غاي في مقالته إلى أن تخصيص موسم يحتفي بالنساء اللواتي يقفن وراء الكاميرا، هو فعل عشوائي ولا معنى له، مشبهاً الخطوة التي قامت بها شبكة الأفلام بأنها تبدو تماما كما لو أن أحدهم قرر اعتبار “الدراما” أو “تصوير مشاهد الأفلام في مواقع خارجية” نوعاً Genre أو ثيمة لأي فيلم. وبحسب الكاتب فإن نسبة الأفلام الأميركية التي قدمتها مخرجات نساء لم تتجاوز 4% خلال الأحد عشر عاماً الماضية، وكذلك هي النسبة في صناعة الأفلام في المملكة المتحدة طوال تاريخها، مضيفاً بأن الحال يزداد سوءا في عالم شبكات بث الأفلام هذه، حيث تكون عملية اختيار الأفلام وارشفتها انتقاءية للغاية.

على رغم ذلك، أشاد الكاتب بخطوة شبكة الأفلام مشيرا إلى أنها وإن لم تكن مثالية، إلا أنها ترفع المعنويات، ذلك أن قائمة الشبكة المذكورة تض أسماء لمجموعة من المخرجات اللواتي قدمن أفلام جيدة تستحق المشاهدة والتوقف عندها، المؤسف أن عدد لا بأس به من تلك الأسماء لم تستمر محاولاتهن الاخراجية، رغم جودتها، ومن الأسماء التي تضمها القائمة، على سبيل المثال لا الحصر:

ايلين ماي، وهي ممثلة، وكاتبة سيناريو ومخرجة أميركية، أما الفيلم الذي احتفت به الشبكة لايلين فقد كان فيلم “إشتار” Ishtar وهو فيلم كوميدي قدمته ايلين عام 1987. ينتمي الفيلم لنوع أفلام البودي كوميديا buddy comedy التي تعتمد قصة يخوض فيها صديقان مغامرة ذات طابع كوميدي. وقد حصل وقت عرضه على انتقادات حادة، واعتبر فيلما غامضا ويتضمن قدرا من الاثارة بشكل سخيف، كما وُصف بأنه مهزلة. أما إعادة عرضه بعد كل تلك الأعوام فجاءت حين أعيد اعتباره من قبل النقاد في السنوات الأخيرة كما ان البعض اعتبره واحدا من أفضل الفنان دستن هوفمان الذي قام ببطولة الفيلم، كما حصل الفيلم على اعجاب كثير من رواد الشبكة ومستخدميها.

كذلك احتفت الشبكة بمارتا ماساروش، المخرجة والكاتبة السيناريو الهنغارية بعرض فيلمها “مذكرات لأطفالي” Diary for My Children، الذي يقدم دراسة مؤلمة لكن مفعمة بالأمل حول الحزن والحداد والشيخوخة في فترة ما بعد الستالينية في بودابست. وكما هو حال الفيلم أعلاه، لم ينصف فيلم مارتا نقدياً، حال عرضه عام 1984 على الرغم من حصوله على جائزة خاصة من لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي في ذلك العام.

وتضم القائمة أيضا إسم المخرجة الأميركية كاثرين بيجيلو، التي قدمت عام 1995 فيلم الخيال العلمي “أيام غريبة”Strange Days”، وهو فيلم احتفى بأفكار جماعات البونكس التي كانت رائجة في ذلك الوقت، ولا تزال بعض مشاهده مرعبة حتى اليوم، على الأخص تلك التي يظهر فيها الفنان رالف فينيس وهو بمظهر غريب، فقط لتصل المشاهد فكرة أنه في الثالثة والعشرين من عمره.

كذلك احتفت الشبكة آغنيس فاردا، المخرجة الفرنسية التي تلقب بملكة أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، وعُرضت لها أفلام هامة كثيرة من بينها فيلمها التوثيقي Documenteur، وكذلك فيلم”وجوه. أماكن” Faces Places وهو فيلم توثيقي أيضا، وقد حصل هذا الفيلم على جائزة مهرجان كان السينمائي عام 2017 ورشح للأوسكار في ذلك العام لأفضل فيلم توثيقي.

ومن أفلام فاردا المحتفى بها، فيلم العام 1962 “كليو من 5 إلى 7 ” Cleo from 5 to 7، الذي قدم دراسة حول شخصية حقيقية متأرجحة لكن مؤثرة، ثم هنالك تحفتها السينمائة النسوية الأكثر صرامة Vagabond، وأخيرا فيلم Jacquot de Nantes الذي قدم صورة غير حقيقية للسنوات الأولى من حياة زوج فاردا الأخير، الراحل جاك ديمي، وقد صنعت فاردا الفيلم بكل حب وحنان، بعد عام واحد من وفاة زوجها بعد معاناة مع مرض الإيدز.

ومن بين الأسماء التي احتفى بها الموقع أيضا المخرجة والممثلة سابقا، البريطانية اندريا أرنولد، وفيلمها “الدرب الأحمر” (Red Road)، والمخرجة وكاتبة السيناريو الفرنسية سيلين سياما وفيلمها (Tomboy)، والمخرجة، المنتجة وكاتبة السيناريو الأرجنتينية لوكريشيا مارتيل، وعرض لها فيلم (المرأة التي بلا رأس) (The Headless Woman) .

كذلك تضم القائمة أسماء مثل المخرجة وكاتبة السيناريو البريطانية جوانا هوج وفيلمها (غير المرتبطان) (Unrelated)، والمخرجتان البريطانيتان لورا مولفي وبيتر ولين وفيلمهما “أحجيات أبوالهول” Riddles of the Sphinx الذي قدمتاه عام 1977 وهو فيلم مليئ بالأحجيات المحيرة للعقل، والمخرجة وكاتبة السيناريو البريطانية سالي بوتر، وفيلمها “حفارو الذهب” The Gold Diggers الذي كان فيلما تجريبيا ساحراً، وكذلك المخرجة التايلندية وهي كاتبة سيناريو ومنتجة أيضا، انوشا سويشاكورنبونج، وفيلمها “حين يحل الظلام” By the Time It Gets Dark، وهو فيلم تأملي مثير للجدل عن الفن وأوراق التبغ.


أخيرا، فإن القائمة المذكورة أعلاه لا تقدم سوى رقما صغيرا من الرقم الحقيقي لأعداد المخرجات التي احتفت بهن الشبكة، وكانت منهن المخرجة اللبنانية نادين لبكي وفيلمها “كاراميل” والتي لم يذكرها كاتب المقال.

لكن بالإضافة إلى تلك الأسماء، بالتأكيد هنالك أسماء كثيرة أخرى لم ترد في القائمة، لكن، وبحسب المقال، فإن مهرجان السينما البلجيكية الناطقة بالفرنسية، الذي انطلق في الفترة التي أطلقت فيها القائمة، والذي لا يعتمد أي ثيمة جندرية، عرض عددًا كبيرًا من الأفلام التي أخرجتها نساء، من بينها فيلم Amer للمخرجة الفرنسية هيلين كاتيت وشاركها في اخراجه المخرج الفرنسي برونو فورزاني ، وقد قدما فيلم دراما نفسية آخاذة بنفس أسلوب أفلام الرعب الإيطالية “الجيالو”. كما احتفى المهرجان ذاته بالفيلم القصير الذي عرض عام 1975 “من أجلك سأقاتل” For You I Will Fight وهو من اخراج الفرنسية راشيل لانغ، ويقدم دراسة سريعة ومليئة الأكشن حول مجندة في الجيش.

https://www.awanbh.com/single-post/2019/12/02/مطلوب-مخرجات-الجندر-ليس-نوعا-سينمائيا

سينمائيا.. الأزمة السورية مادة ثرية لا جديد فيها

منصورة الجمري*

منذ بدايات اندلاع أزمة سوريا، بدت الأفلام التي أنتجت حولها، متحاملة إلىحد كبير، منحازة إلى جهة دون أخرى، والأهم من ذلك مثقلة إلى أقصى حد ببشاعة الهجمةاللاإنسانية التي تعرضت لها سوريا. جاءت معظم تلك الأفلام الأولى على يد سينمائيينسوريين، أكثرهم كان خارج سوريا وقت إنجاز فيلمه. والحق فإن أغلت تلك الأفلام قدمبلغة سينمائية رصينة إلى حد كبير لكنها بالنسبة لمشاهدة من خارج سوريا كانت تخاطبالوجدان السوري أولا ثم العالمي لكن بلغة عاطفية بحتة. ومن وجهة نظر شخصية، كانأهم تلك الأفلام فيلم “سلم إلى دمشق” للمخرج السوري المعروف محمد ملص.قدم ملص فيلمه ببراعة كبيرة وكان ذلك في عام 2013،  تحدث فيه عن ثورة بلاده “المسلوبة”وقال رداً على الصحفيين حول أسباب تقديمه للفيلم بأنه أراد من وراءه أن يفجر مشاعرالحنين واللوعة لمن غادروا بلادهم من السوريين.

من وجهة نظر شخصية مرة أخرى، كان فيلم ملص، رغم جودته العالية، مثقلا بكثيرمن المشاعر والعواطف الجياشة، ومتحاملا على جهة ما، ومنحازاً … ربما لموقفه منالأزمة التي اعتبرها ثورة من أرادوا التغيير.

توالت الأفلام بعدها، والحق فقد كثير من تلك الأفلام كانت جيدة، قدمهامخرجون صنعوا أسماءهم بجدارة. لكن حجم الاستنزاف العاطفي في تلك الفيلم بدا مانعاًمن تكوين صورة واضحة عما يحدث في سوريا، وأمراً غير مشجعاً لمتابعة المشاهدة أوتتبع ما يجد من السوريين في مجال السينما.

السنوات الأولى لم تكن على أية حال سوى بدايات الأزمة، السوريون، كماالعالم كله، لم يكونوا مدركين لما سيأتي بعد سنوات، وبالتطور اللاإنساني في أزمتهمالذي سيحل بالعالم أجمع. آنذاك كان السوريون، على الأقل ممن قدموا أفلامهم، يعيشونحالة ألم بارح وصدمة قاسية، وجحيم لا يطاق جراء ما تمر به بلادهم وما يعيشوه هم أوأهاليهم في داخل سوريا. كانت أفلامهم حينها تنطق بألسن مختلفة ومذاهب متباينة، وتبرزمواقف متعاكسة، سينمائياً وسياسياً. جميعهم تغنوا بسوريا، وكلهم بكوا عليها وأبكوامشاهديهم، بل واستنزف معظمهم مشاعر المشاهدين دون منطق واضح.

أزمة اللاجئين

تغيرت الصورة تماما في عام 2015 حين تفجرت أزمة أخرى انبثقت من الأزمة السوريةهي واقعاً أزمة اللاجئين السوريين في أوربا. بدأ الأمر بمشاهد مؤلمة نقلتهاالقنوات الإخبارية ونشرتها الصحف وتبادلها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. بداالأمر منذرا بكارثة إنسانية عالمية، ضحيتها الشعب السوري والفاعلين فيها .. كثر.

عند ما سيطرت أخبار وصور اللاجئين السوريين على الأخبار… تدخلت السينما..وثائقياً، وكانت تلك نقلة أكثر عاطفية وأكثر تعبيرا عن شعور منتجي تلك الموادالسينمائية ومواقفهم مما يحدث عالمياً. ربما كانت صرخات استنكار .. ضد سياساتالدول الخاصة بالهجرة واستقبال اللاجئين وربما كانت أكثر من ذلك…صرخة ضد سياسةعالمية أنتجت كل هذا العذاب الإنساني.

حمل المخرجون كاميراتهم، وذهبوا بها بعيدا، نحو مخيمات اللاجئين المنتشرة،ثم متنقلين بين الحدود الأوربية مصاحبين اللاجئين في رحلات شقائهم وهربهم نحو أملجديد وحياة أكثر أمنا وأقل شقاءا وبشاعة من تلك التي عاشوها في بلادهم منذ إندلاعأزمتها.

منظمة العفو الدولية مثلا تحدثت في عام 2016 عما أسمته بقائمة أفلام”رائعة” تعرضت لأحوال اللاجئين، كان منها  فيلم “بعد الربيع” After Spring (2016) الذي تعرض لأحوالاللاجئين السوريين في مخيم الزعتري في الأردن والذي حصل على جائزة مهرجان ترايبيكاالسينمائي.  ضمت قائمة العفو الدولية أيضافيلم “جمهورية اللاجئين” Refugee Republic  (2016) الذي يتعرض لأحوالاللاجئين السوريين أيضا ولكن في شمال العراق، وهو الآخر حصد جوائز مهرجانات دولية كثيرة، وفيلم “سلام يا جاري” SalamNeighbor   (2015) وهو الآخر يتحدث عن معاناة اللاجئين فيمخيم الزعتري بالأردن. ضمت القائمة فيلما مميزا رشح لكثير من الجوائز هو فيلم  نار في البحر Fire at Sea  (2016) الذي كان أحد أفضل الأفلام التوثيقيةالتي صورت معاناة اللاجئين  بشكل صادم وقويومؤثر. رشح الفيلم لأوسكار أفضل فيلم توثيقي وجرت أحداثه في لامبدوسا، إحدى جزرصقلية، التي كان يصل لها آلاف من اللاجئين السوريين وغيرهم بحثا عن حياة جديدةوأمل جديد. قدم الفيلم يومها تفصيلا مرعبا لرحلة أولئك اللاجئين، ولتأثير وصولهؤلاء على حياة سكان الجزيرة. كان فيلما مؤثرا صادقاً إلى حد كبير اضطر مخرجه لأنيبقى عاما كاملا في الجزيرة ليعاين الأحوال بنفسه وليعيش معاناة الطرفين… السكانواللاجئين. كانت تلك سينما حقيقية… تنقل قصصاً أصيلة بمصداقية عالية لتحدثتأثيرا كبيرا. 

من بين الأفلام التي تميزت أيضا كان فيلم (أريد أن أعيش) I want to Live  الذي يتحدث عن معاناة الأكراد السوريين فيمخيمات اللاجئين في كردستان، وفيلم (وطني) My Homeland  (2016) ورشح لأوسكار أفضلفيلم توثيقي، وفيلم 4.1 Miles  الذي يستعرض محاولات حرسالحدود اليونان لانقاذ لاجئين سوريين على سواحل جزيرة ليزبوس اليونانية، وهو الآخررشح لأوسكار أفضل وثائقي. 

توالت الأفلام بعدها ولا تزال كذلك حتى وقت كتابة هذا المقال، لتجعل الأمريبدو كما لو أن صناع الأفلام الراغبين في اقتناص جوائز المهرجانات الدولية، وجدوافي أزمة اللاجئين السوريين، وسواهم من اللاجئين بكل تأكيد، ورقة حظ رابحة، علىالأخص لدى المهرجانات السينمائية التي تقام في الدول الغربية، والتي تسعى لنقلصورة أخرى مغايرة لتلك التي تصنعها سياسات الغرب تجاه اللاجئين والتي فاقمت منمعاناتهم وخلقت أزمات جديدة للاجئين وللمجتمعات التي ينتقلون إليها.

ماذا بعد؟!

اليوم وبعد مرور عامين أو ثلاثة من ظهور موجة تصوير الأفلام الوثائقية التيتستعرض وتوثق معاناة اللاجئين السوريين، يبدو الأمر مختلفاً. إذ لم تعد هذه الأفلامتنقل أي جديد، لم تعد جديدة على العالم المشاهد التي تصور معاناة اللاجئين السوريينالهاربين من الموت والقتل والذبح وانتهاك الحرمات أو القصف والموت تحت أنقاضمنازلهم، لم يعد كل ذلك جديداً. حتى مشاهد غرق المهاجرين في البحر والصور التيتدمي القلوب.. لم تعد جديدة. ربما كانت صورة الطفل السوري الغارق على سواحل تركيانهايات عام 2015، ربما كانت كافية لهز ضمير العالم كله، لكن ذلك حدث حينها وأصبحتتلك  الصورة الآن مجرد ذكرى، لن تمحى نعممن ذاكرة كثيرين، لكنها ذكرى فقط.  

عرف الجميع ما عاناه السوريون، وكيف صارعوا الأمواج في قوراب ليست معدةلنقل بشر، وكيف يعاملهم حرس حدود الدول التي يلجئون إليها، ثم كيف تنقسم شعوب تلكالدول في مواقفها منهم، وكيف تحاول المجتمعات التي يلجئون إليها أن تستوعبهم، تقبلهمأو ترفضهم.

من وجهة نظر مشاهد عالمي، بعيد ربما عن سوريا، مشاهد غربي لنقل، ما الجديد الذينتنقله هذه الأفلام اليوم بعد سبعة أعوام من إندلاع الأزمة. لماذا يستمر إنتاجهاوتتكرر موضوعاتها وثيماتها ولماذا يستمر مخرجو الأفلام التوثيقية في حمل كاميراهموملاحقة اللاجئين في رحلاتهم عبر الحدود.

ألا تبدو تلك الأفلام الآن مستثمرة لمعاناة هؤلاء وربما مراوغة في موقفهاوفي نقلها لتلك المعاناة، مرتبكة بين واقع ما تسجله كاميرا مخرجيها ورغبات مموليهاوسياسات الدول التي تنتجها.

هذه الأفلام التي ادعت منذ بدايات انطلاقها في أوربا أنها تسعى لأن تجد حلالأزمة اللاجئين السوريين، لم تفعل شيئا ولم تغير الكثير في حال هؤلاء اللاجئين.وعلى رغم تبني بعض الجهات لعدد من تلك الأفلام على أساس توجهها الإنساني البحتوكذلك بناءا على توقعات تلك الجهات بأن يكون لتلك الأفلام تأثير إيجابي ما علىأوضاع أولئك اللاجئين، إلا أن حال أولئك اللاجئين بقي دون تغيير كبير يذكر.

يبدو الأمر استثمارا ومرواغة وانتهازا لفرصة تاريخية، لصناعة أفلام تحصدالجوائز، تلفت الأنظار، وتبرز أسماء صانعيها، وتصقل صور الدول التي تنتجها. فماالذي تقدمه هذه الأفلام من جديد ليستمر انتاجها حتى اليوم بذات الروح والتوجه. ألاتبدو تفاصيلها مكررة، شاهدها كثيرون مرات ومرات إما عبر تقارير أخبارية مباشرة حيةأو غير ذلك، أو حتى عبر ما يتم تناقله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أكانصحيحا أم مفبركا.

ربما يريد العالم اليوم أن يشاهد صورة مختلفة، أن تقوم السينما بدور توثيقيمغاير. ربما نريد أن نعرف ما آل إليه حال هؤلاء المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة،تأثيرات وجودهم، سلبا وايجابا، سياسيا وثقافيا واجتماعيا. ربما نحتاج لوجود صناعأفلام، أكثر توازناً في نظرتهم للأمور، أكثر وعيا بدور السينما، التوثيقية على وجهالخصوص، أكثر إدراكا لأن إنسانية السوريين أو غيرهم لم تعد تحتمل مزيدا منالمزايدات لا يمكن لصانعي الأفلام بداية أن يتخذوا موقفا من جهة ما أو أن ينحازوافي أفلامهم لجهة دون أخرى. موضوع الأفلام يجب أن يكون معاناة السوريين من أي توجهومهما كانت انحيازاتهم أو مذاهبهم أو ايديولوجياتهم. عبثت كثيرمن الأيدي في سورياويكفي ما تكبده السوريون من وراء ذلك، ولذا فعلى السينما أن تنأى بنفسها عن كل تلكالمزايدات أيا كان نوعها. لم يعد هناك أي مجال لأفلام مثقلة بالابتزاز العاطفي كمافعلت الأفلام الأولى، أو لأي استثمار للأزمة أو صقل لصورة أي جهة ما على حساب آلامودموع ودماء السوريين. ربما آن للسينما العالمية أن تمارس أحد أدوارها بمهنيةعالية، وربما آن لها أن تناقش اليوم ما يحدث حقاً للسوريين ولمن استقبلهم ولمن يقفمع إنسانيتهم أو ضدها أو  من لا يكترث لها… بحيادية، بإنسانية، بمهنية عالية.

  • *مقال منشور في نشرة المنبر التقدمي الشهرية 

وثق بحثه في فيلم “ذرة رمل” الموسيقي المخرج البريطاني جايسون كارتر: موسيقي الفجري منحتني هوية “ما”

أوان – منصورة الجمري

مهما يكن من أمر مصداقية الروايات التي يوردها الموسيقى البريطاني جايسون كارتر في  فيلمه “ذرة رمل” Grain of Sand حول تاريخ نشأة وظهور موسيقى الفجري، ومهما تبلغدرجة دقة تلك الروايات أو عدمها، إلا أنه من الواضح تلمس كم الشغف الذي يحمله  جايسون لموسيقى لا تشبه أبداً الموسيقى التي اعتاد عزفها على أداة “الهايبر جيتار” التي يعشقها.

والحق فإن هذه ليست المرة الأولى التي تأخذ فيها موسيقى ثقافة وشعب ما،جايسون، بعيداً، ليحلق معها، يتتبع أصولها ويقتفي تاريخها، ثم ليدرس إمكانية مزجموسيقاه معها والخروج بتمازج ثقافي موسيقي جديد. فعلها في أفغانستان وفي باكستان وفي بعض دول روسيا، وهاهو الآن يفعلها في البحرين مكملا مشورا بدأه في الإمارات والكويت منذ أكثر من عقدين.

أبهرته أغاني الغوص التي سمعها أولا في الكويت، فغاص مع ألحانها، ثم إلتقاها في الإمارات العربية المتحدة، فوقع في حبها. وحين عاد ليلتقيها بعد عقدين في البحرين، اختلف الأمر. في البحرين، شغف جايسون بأغاني الغوص، بنوع واحد منهاعلى وده التحديد. كانت تلك موسيقى الفجري، وتجاوز الأمر الإعجاب بالفجري والرغبة في مزج موسيقاه بها، ليصل حد الرغبة في التعمق بالبحث عن أصولها، بالإطلاع على أساطيرها، وبفيلم توثيقي عرضه أخيرا ضمن برنامج ثقافي أقامته السفارة البحرينية في واشنطن أخيراً للتعريف بالثقافة والإرث البحرينين.

انبهر جايسون بثراء موسيقى الفجري، بعمق ألحانها، وبغموض نشأتها، ليجد نفسه باحثا، مخرجاً سينمائيا وليس مجرد موسيقى. وهكذا جاء فيلم “ذرة رمل” التوثيقي، ليتتبع جايسون عبره سيرة الفجري، وليحاول الدخول وسط دائرة الغموض المثيرة المحيطة بهذه الموسيقى.   

في الفيلم يبحر جايسون مع موسيقى الفجري الشعبية البحرينية، يدرس تاريخها ويتعرف على بداياتها، يحضر جلسات فرقة لا تزال تعتز بها وهي فرقة شباب الحد البحرينية، ثم يشارك الفرقة بموسيقى الجيتار التي يعزفها هو وبموسيقى المؤلف الموسيقي البحريني أحمد الغانم.

“أوان” التقت جايسون للحديث عن فيلمه، وعما يملكه فن الفجري ليأخذه كل هذه المسافة نحو السينما.

“لم تكن موسيقى الفجري هي موضوع بحثي الأول”، هكذا أخبرني، ثمأكمل “انبهرت بأغاني الغوص حين كنت أعيش في الكويت ثم في الإمارات. ذهبت معها في رحلة بحث طويلة، لكنها توقفت لظروف معينة”.

كان عمر جايسون حينها لا يتجاوز الثالثة والعشرين وكانت تلك أول رحلة له خارج المنطقة الريفية التي ولد ونشأ فيها في إنجلترا، لكن ما وصفه بانفتاح شعب الإمارات وبساطتهم ومحبتهم للآخرين شجعه على أن يخطو تلك الخطوات نحو ثقافتهم. وحين استأنف جايسون رحلة بحثه تلك بعد توقف عقدين، تبدلت وجهة الرحلة، ووجد نفسه يخوض رحلة أخرى، رحلة قوامها العشق… عشق موسيقى الفجري.  

سألته عن سر هذا الانبهار بموسيقى لا تمت لموسيقاه بصلة ثقافية ما، فأخذني برده لما قبل خمسة أعوام من الآن “الفيلم بالنسبة لي هو رحلة وتجربة عميقة مثرية، بدأت بفكرة واتتني بعد وفاة والدتي عام 2013. كان ذلك وقتاً صعباً جدابالنسبة لي، وكنت وقتها أعيش مرحلة انتقالية أبحث خلالها عن مشروع موسيقي جديد”.

جال جايسون العالم بأداته الموسيقية (الهايبر جيتار)، زار دول عديدة، تعرف على ثقافاتها الموسيقية، درس تلك الموسيقى، تعرف عليها، أحبها، ومن ثم مزج ألحانه بألحانها ليخرج بألوان موسيقية مختلفة. توقفت رحلة جايسون بعد وفاة والدته، ولبعض الوقت استقر في فرنسا، وبدا وكما لو أنه ينطلق في رحلة مختلفة، رحلة وجد نفسه يبحث فيها عن هويته.

بعد وفاة والدته التي كانت قريبة منه إلى حد بعيد، بدا كل شيء مختلف في نظري، ووجد جايسون نفسه في مواجهة خاسرة مع الحزن والأسى، ووسط كل ذلك شعر بحنين وصفه بأنه (غامض) لأغاني الغوص الخليجية.

“بعد عودتي مباشرة من جنازة والدتي، وجدت بنفسي حنينا لأغاني الغوص الخليجية. سارعت للاستماع إليها، كانت ألحان فرقة إماراتية”. 

حينها، يضيف جايسون “وجدت أنني لا أزال أحمل انبهارا بهذه الموسيقى ولا تزال ألحانها تأسرني. أخذتني الموسيقى لمكان آخر، وبدأت أفكر في أمور عديدة من قبيل أنني يتيم وأنني طفل تم تبنيه، وفي الواقع، فإن هويتي غير واضحة بالنسبة لي. كما وجدت أن العناصر الثقافية القديمة تجذبني بشكل لا استطيع تفسيره وتمنحني ما لا أملكه. إنها تمنحني هوية ما”.

ويوضح “على أية حال، انفتاحي على الموسيقى ليس جديدا ولعله هو ما حافظ على توازني النفسي دائماً. كما ان انبهاري بأغاني الغوص وبالثقافة الخليجية ليس أمراً جديداً، فقد ملكني شعور غريب منذ زيارتي الأولى للخليج عام 1993. أذهلني سحرالمكان إذ كان تراث الخليج وثقافته واضحين بشدة حينها، وكان الأمر يبدو كما لو أن الزمن يعود إلى الوراء بمجرد أن تحط أقدامك على أي أرض خليجية”.

ثم يكمل “هكذا ومنذ تلك اللحظة، أصبح موضوعات الهويات شغلي الشاغل،وبدأت أفكر في هذه المفردة على وجه التحديد. الهوية كلمة ذات دلالات كثيرة ومضامين عميقة، وهي أمر لا يمكننا تجاوزه على المستوى الفردي، والجمعي، أو على مستوى المجتمع الأصغر والأكبر وصولا إلى المجتمع العالمي”.

وعن علاقة ذلك بالموسيقى، قال “يمر العالم اليوم بمرحلة انتقالية حاسمة وكبرى، وهو ما ينتج حالة من عدم الإتزان ويؤثر على إحساس الأفراد من مختلف الثقافات بهوياتهم. من وجهة نظري فإن الموسيقى والفن هي أحد أكثر الأدوات قوة وقدرة على تغيير الأجواء، لا أزعم أنها تغير العالم لكن يمكن لها أن تغير شخصياواحدا يمكن له أن يحدث فرقا في العالم. أؤمن بقدرة الموسيقى على تغيير الناس وعلى تغيير أولئك الذين يملكون النفوذ والقادرين على احداث التغيير في مجتمعاتهم. ونحن كفنانين إذا فهمنا قوة الفن الذي نقدمه وقدرته على التغيير فسوف نكون قادرين على احداث التغيير”.

بحثا عن هويته واستجابة لذلك الشعور الغامض الذي تحرك بداخله لحظة سماعه أغاني الغوص الخليجية، قرر جايسون العودة إلى الخليج للغوص في أغانية والبحث بشكل أكبر عبر فيلم هذه المرة وليس مجرد وصلة موسيقية مشتركة.

حين عاد فوجئ بما لم يكن في الحسبان. ويوضح ذلك قائلا “في الحال قفزت في ذهني فكرة العودة إلى، الإمارات، دبي التي أعرفها جيدا، قررت البحث في تلك الموسيقى لأتعرف عليها ولأجد نفسي”

لم تكن دبي عام 2013 هي دبي عام 1993، تغيرت وتيرة الحياة بشكل سريع جدا في دبي، ولم تعد الملامح الخليجية واضحة في المدينة. قرر الانتقال إلى أبوظبي، لكن الحال سواء “وجدت دبي، كما أبوظبي، وقد فقدتا شيئا من خصوصيتهما الثقافية. من المستحيل أن تصمد أي ثقافة في العالم أمام التطورات التي تحدث بسرعة كبيرة، دون أن تخسر تلك الثقافة شيئا ما، في الواقع تأتي هذه التطورات على حساب ارتباط الأفراد بتراثهم وثقافتهم الأصيلة”.

ويواصل “لا يمكننا فصل الأفراد عن تراثهم الثقافي لأننا بذلك نفصلهم عن هوياتهم. تغير الإماراتيون بفعل ذلك التغير الهائل الذي طرأ على مجتمعاتهم،أصبحوا يملكون منازل جميلة وسيارات فارهة ووظائف مرموقة لكن أمراً ما أصبح مفقوداً لديهم”.

“فعلت ما بوسعي لينجح مشروع الفيلم في أبوظبي بل إنني أقنعت شبكات إعلام عالمية لتغطي الموضوع باعتباره فيلم يعزز الحوار ويمد الجسور بين الثقافات، وبالفعل حصلت على اهتمام شبكة السي ان ان، لكنني بعد شهور من العمل، وجدت أنني غيرقادر على اتمام الفيلم بسبب فقدان الروح الخليجية التي لمستها في التسعينات”.

فشل مشروع جايسون، وأحبط في تحقيق ما وصفه بـ “أفضل فكرة واتته في حياته”، لكن لقاءا عابرا مع صديقة مقيمة في البحرين، تم في شهر يونيو 2016،غير مجرى الأمور. اقترحت صديقته تصوير الفيلم في البحرين، أخبرته أن البحرين لاتزال تملك شيئا من ذلك  السحر الذي يعرفه جيداً.  

يقول جايسون “في البحرين التقيت بليديا مارتين، وهي خبيرة موسيقية حضرت رسالة الدكتوراة حول موسيقى الفجري”.

اصطحبته ليديا إلى فرقة شباب الحد، وحينها بدأت قصة جديدة. وسط الأغاني التي كانت الفرقة تغنيها، وجد جايسون انجذاباً خاصاً، بل شغفا، لموسيقى من نوع مختلف. كانت تلك الفجري، الموسيقى التي ستستأثر بشغف جايسون.

حين سألته عن سر ذلك الشغف، قال “بدأت أميز بين أغاني الغوص المختلفة،وألاحظ الجو الذي تشيعه موسيقى الفجري بشكل خاص، وكيف تنقل أعضاء الفرقة إلى جو آخر، مختلف تماماً، بمجرد أن تحضر”.

أحب جايسون موسيقى الفجري ووجد أنه سيكون قادرا على مشاركة الفرقة في عزف ألحانها،ثم أبهرته أكثر حين تعرف على أصولها وتاريخها بدءاً بالأسطورة التي تدور حولهاوانتهاءا بروايات تاريخية أخرى تتعلق بها.

يقول جايسون “هنالك قصة شعبية تتحدث عن أصول الفجري وتدور حول ثلاثة من غواصي اللؤلؤ من المحرق زاروا ساحل أبوصبح في الدراز، وحين أقتربوا من مسجد أبوصبح سمعوا صوت لحن موسيقي يأتي من وراء المسجد، وكان أولئك الجن يعزفون ألحان الفجري”.

أما الرواية التاريخية التي استمع إليها جايسون وتبناها، كما يبدو، فتفيد بأن موسيقى الفجري جاءت أصلا من موسيقى مسيحية دينية، كانت تعزف قديما قبل تحول البحرين إلى الإسلام، وتشير إلى أن المسيحيين في البحرين ممن أرادوا حماية ثقافتهم بدءوا يعزفونها بشكل سري، ثم تطور الأمر فأصبحت هذه الموسيقى والأغاني تستخدم كأغان وموسيقى للغوص.

جايسون أضاف بأن ما يميز العازفين البحرينين لهذه الموسيقى الشعبية، عن سواهم، هو اعتزازهم بتراثهم الموسيقي، وعدم خجلهم من التحدث عن هذا الجزء الأصيل في ثقافتهم.

عدت لسؤال جايسون عن الكيفية التي يرى فيها الموسيقى معززة للهويات محافظة عليها، فقال “يمر العالم اليوم بمرحلة انتقالية حاسمة وكبرى، وهو ما ينتج حالة من عدم الإتزان ويؤثر على إحساس الأفراد من مختلف الثقافات بهوياتهم. من وجهة نظري فإن الموسيقى والفن هي أحد أكثر الأدوات قوة وقدرة على تغيير الأجواء، لا أزعم أنها تغير العالم لكن يمكن لها أن تغير شخصا واحدا يمكن له أن يحدث فرقا في العالم. أؤمن بقدرة الموسيقى على تغيير الناس وعلى تغيير أولئك الذين يملكون النفوذ والقادرين على احداث التغيير في مجتمعاتهم. ونحن كفنانين إذا فهمنا قوة الفن الذي نقدمه وقدرته على التغيير فسوف نكون قادرين على احداث التغيير”.

أما عن أهمية تصوير فيلم حول موسيقى الفجري لتعزيز الهويات فيقول “أهمية فيلمي تأتي من تأكيده على أنه في ظل حالة عدم الإتزان التي يمر بها العالم وتأثيرها الكبير على الهويات الفردية، يأتي الفيلم ليقول أنك إذا أردت أن تتعرف على الآخرين فما عليك سوى أن تتحدث إليهم، وهذه المنطقة، أٌقصد منطقة الشرق الوسط، حصلت على تغطية اعلامية سيئة بشكل كبير في السنوت الأخيرة منذ أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من جرائم داعش”

يشير جايسون إلى أن فيلمه سيكون بمثابة اقتراب من الثقافة الأصيلة لدول الخليج وسيكون كفيلا بنقل صورة مختلفة عن تلك الصورة الشائعة في الإعلام العالمي، لكنه يؤكد “لا أزعم أن الفيلم سيكون توثيقا رسميا لتاريخ أغاني الغوص ولكنه توثيق لرحلتي الشخصية في ثقافة الخليج وإدراكي لأهمية هذه الرحلة لمد جسور الحوارالثقافي”.

 

 

https://www.awanbh.com/single-post/2018/11/20/وثق-بحثه-في-فيلم-ذرة-رمل-الموسيقي-البريطاني-كاتر-موسيقي-الفجريمنحتني-هوية-ما-1

 

 

 

 

 

 

رؤية تحليلية لفيلم “الفيل الأزرق”

منصورة الجمري

هذا الفيلم موفق إلى درجة كبيرة، بدءا من المشهد الافتتاحي الذي يأخذنا لأجواء الفيلم، سواء من حيث الصمت المطبق على المشاهد، وهو صمت ترقب وصمت مرعب إلى حد ما، يشعر المشاهد بأن شيئا ما سيحدث، إذ لا مجال أن نسمع أي صوت آخر سوى الأصوات التي يريدنا المخرج أن نسمعها، صوت المنبه، صوت زجاج الويسكي، صوت الماء حين يرتطم به وجه البطل، ولا نسمع أي من أصوات الطبيعة في الخارج، وهذا يأخذنا منذ البداية لجو العزلة الذي يعيشه البطل، وهو بالفعل ما يتم تأكيده مباشرة في المشهد التالي، حين يستفهم البطل من سائق التاكسي عن سرقة المتحف ليخبره السائق بأن الخبر عمره ثلاثة شهور..

المشهد الافتتاحي أيضا جاء بإضاءة معتمة، بحيث لا يمكننا تبين كل تفاصيل المشهد بوضوح، وهذه إشارة للحالة العقلية التي يعيشها البطل، نعرف هذا لاحقا، ولكن ما نستشفه هو وجود أمر غامض، ينذرنا به المخرج منذ البداية .

الاضاءة بشكل عام وفي جميع المشاهد ظلت معتمة لكنها بدأت تتدرج بعد ذلك في المشاهد اللاحقة وحين بدأت الأمور تتضح للبطل وذلك في النصف الثاني تقريبا من الفيلم أو في أي مشهد سابق تحدث فيه إضاءة في عقل البطل على حدث ما، على شرط أن يكون حدث حقيقي وليس ضمن هلوسات البطل الكثيرة، بل إن المشاهد الأخيرة أصبحت اضاءتها قوية حين اتضحت الأمور لنجد أنفسنا وفجأة على شاطئ البحر باضاءة طبيعية إلى حد كبير.

استخدام المخرج أيضا للكاميرا كان موفق بشكل كبير، فهو مثلا نوع بين أنواع اللقطات مع تركيز على اللقطات القريبة والبالغة القرب في المشاهد التي ينقلنها فيها للحالة العقلية للبطل، والتي يريد أن يدخلنا في ذات الدوامة التي يعيشها البطل. هذه المشاهد تُصور بعدها من زوايا أبعد لتكشف لنا الحقيقة كما هي لا كما يعيشها البطل. حركة الكاميرا أيضا تبدو وكأنها تشي بكثير من الغموض والترقب، فهي متسللة حينا ومباغتة حينا آخر..

المخرج ذكي جدا في توظيف جميع عناصر الفيلم من أجل إيصال الحالة العقلية للبطل، بل ومن أجل إدخالنا في حالة الوهم والهلوسات التي يعيشها، وجعلنا نتوه وسط كل شيء بحيث لا نعرف حقيقة الأمر، وإن كان البطل فعلا مريض عقليا أم إنه يعيش حالة صديقه المريض.

طبعا هذا أمر معتاد من هذا المخرج مروان حامد الذي تتميز جميع أعماله وتشعرنا أننا أمام سينما ناضجة تسير بالإتجاه الصحيح وأن المخرج مدرك للعبة السينمائية بشكل كبير ومتمكن من أدواته.

اختيار الممثلين أيضا موفق، فكريم عبدالعزيز ممثل متمكن جدا من أداء الادوار البوليسية أو أدوار الغموض، وهو قادر على أن يعطي المشاهد ذلك الإحساس بأنك أمام شخص لا يمكن فعلا أن تتبين حقيقته مهما حاولت أن تربط الأشياء ببعضها. أيضا نيللي كريم هي واحدة من أفضل ممثلات جيلها، وهي قادرة على أن تؤدي أدوار كثيرة ومتنوعة، وهي هنا تعطيك ذلك الإحساس الذي أراده المخرج من فيلم غموض وإثارة نفسية، هي غامضة وقد تشك حينا بأنها تتآمر على البطل مع شقيقها. لن ننسى طبعا أداء خالد الصاوي وهو واحد من أكثر الفنانين المصريين جدية وواقعية في تقمص أي شخصية تسند إليه. يبدو صادقا فعلا وواقعيا في تقمصه ذاك، وهنا قدم لنا أداء مقنع للرجل العصابي المريض الذي يجعلك تتوه فلا تعرف إن كان مريضا فعلا أم إنه يتصنع كل شيء

المؤثرات الصوتية بالإضافة إلى الموسيقى وظفتا بشكل جيد لتجعلنا نعيش الدوامة التي يعيشها البطل ومريضه، المزج بينهما موفق إلى حد كبير وكذلك تنويع الأصوات بين الحاد والمرتفع إلى المنخفض إلى تلك الأصوات التي تأخذك لأجواء رعب أو ترقب.. جميعها موظفة لنقلنا إلى أجواء الحالة المرضية التي يركز عليها الفيلم.

حتى ملابس الممثلين والمظهر العام لهم، ينقلنا لأجواء الفيلم على الأخص البطل كريم عبدالعزيز الذي يبدو مرتديا نظارته الشمسية في كثير من المشاهد، وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الشخص لم يعد يرى الأشياء أو يفهمهما بوضوح وإنه يضع حاجزا بينه وبين العالم. بالطبع ملابس خالد الصاوي ستكون مناسبة أيضا لشخص يتلبسه جن أو شيطان ويحوله إلى شيطان يملؤه الشر.

بشكل عام كل عناصر الفيلم موظفة بشكل جيد لتخدم الهدف النهائي وهو نقل الحالة العقلية التي يعيشها البطل أو خصمه المتمثل في المريض الذي يعالجه، وتجسيدها على الشاشة .. بحيث يبدو أن كل شيء يتآمر ضدنا كمشاهدين ليجعلنا نعيش حالة شك وعدم قدرة على تحديد موقفنا من شخصيات الفيلم أو من أحداثه، بل ويجعل كثير من المشاهد قابلة للتأويل بسبب هذا الوضع الغامض الذي يسيطر على الفيلم.

الفيلم سينمائي بإمتياز، تمكن بشكل مبدع من توظيف جميع العناصر المكونة للفيلم لينقل السيناريو المأخوذ عن قصة حققت مبيعات عالية قبل عام فقط من عرض الفيلم للجمهور.